لموسم المصارعة بجبال النوبة طقوسها وأسبارها ومهرجاناتها التي تعم كل القرى والفرقان والحلال .. فالفتيان الابطال المصراعون يدخلون في معسكرات مقفولة تحكمها ضوابط صارمة جداً يحرص الجميع على تطبيقها بحذافيرها ويحثهم الآخرون على عدم الاخلال بها.. فيمتنع الصبيان عن أكل الحوامض، ويلتزمون بالفطير واللبن والعسل والسمسم .. لا يخرجون في النهار الى القرية وهم ممنوعون من اتيانها في الليل ايضاً، فكل طلباتهم تأتيهم في الفريق .. والأسر ملتزمة دائماً باحضار احتياجات صبيان الفريق المعسكرين لأولمبياد المصارعة التي ستقام بعد بضعة ايام ... وأهل المنطقة يحضرون الى موقع المعسكر، وذلك لرفع الروح المعنوية للمصارعين والاطمئنان على سلامة أكلهم وشربهم ونفسياتهم .. والاطمئنان على نومهم وعدم سهرهم، والاطمئنان ايضاً على نمو ابدانهم وبروز عضلاتهم وضمور خواصرهم وانتفاخ صدورهم.. ومنتصف اكتوبر الى منتصف نوفمبر زمان محدد بين النوبة لاقامة كرنفالات واحتفالات ومهرجانات المصارعة.. فالزروع والحقول تكون قد نضجت وأينعت، وما بعده هو فترة لراحة الناس من مشاق الزراعة استعداداً للحصاد بعد نيل كؤوس المصارعة وخطف أضوائها .. وتتبارى الفتيات الحكامات في أغاني التشجيع والاناشيد التي تكيل المدح والثناء للفرسان والابطال.. كما يتزين الفرسان المصارعون بحبات السكسك البديعة الالوان والاشكال .. والسكسك المزخرف هي هدايا مرصعة بآيات الحب والتقدير والعرفان تقدم من الحبايب وبنات الاعمام والخلان العزيزات.. وهي هدايا من اخريات في اشواقهن الحارة للظفر بقلب بطل من الابطال المنافسين لنيل لقب فارس المصارعين في هذه الدورة.. وللسكسك عشق وجداني عميق لدى كافة الشعوب في جبال النوبة.. ولا ادري مغزى هذا العشق.. كما ان تيجان ريش النعام الملونة تعلو هامات المصارعين المزهوين باستعراض عضلاتهم بإشارات تسرع نبض الخصوم في الفريق الآخر.. والصدور العارية تستبين فيها الرسوم والوشم بأشكال وعلامات ترمز للرجولة والقوة والشهامة.. والوجوه تشع فخراً واعتزازاً بالنفس والفخر بالقبيلة.. والكشكوش في أرجل المصارعين التي تصدر منها اغنام منسجمة مع غناء الحكامات وزغاريد الامهات الداعيات بغلبة فلذات اكبادهن طمعاً في نيل كأس تكون شرفاً للقبيلة الفائزة لعام كامل .. وفتيات قبائل النوبة على اختلافهن لسن بأقل استعداداً من الصبيان لهذا المحفل السنوي الكبير .. فمواسم المصارعة هي مواسم للفرجة والعرض واللقاءات والمقابلات، وللفت الانظار ورمي السهام واقتناص الفرص التي لا تتكرر الا مرة واحدة في السنة.. وكل صاحب حظ ونصيب سينال بغيته من هذه التظاهرة الكبيرة، ويحقق ما يروم ويبتغي، والا فالمطلوب من سيئ الحظ، عام آخر من الانتظار الممل. إذن للمصارعة الحرة عند النوبة معانيها ودلالتها الاجتماعية والثقافية والفنية والاقتصادية أيضاً .. فموسم المصارعة هو عيد للتجارة والربح والكسب وجني الفوائد.. وهو أيضاً عيد للشباب للتعارف والصداقة والحب والاختيار والزواج.. فالمصارعة عيد لكل القبائل في جبال النوبة للتعايش والتداخل والتمازج والانصهار.. وهذه كلها بجانب المصارعة بوصفها رياضة بدنية لها فنونها الاستعراضية للمهارات الجسمانية والعضلية والخلقية والأخلاقية.. وفنون مقارعة الخصم والنيل منه برميه على الأرض دون أذى أو مس شعرة منه ولو بكلمة.. وللمصارعة في جبال النوبة جمهورها وشعبيتها وعشاقها ومريدوها ومحبوها المتيمون بها أيضاً.