وكثيراً ما تساءلت لماذا لا يمضي القاص في عمله القصصي إلى النهايات التي تبهر وتكشف وتضئ العمل نفسه، ثم لماذا - ايضاً - يقف النقد عند نفس هذه النهايات لا يتعداها، ثم لا يطرح التساؤلات الموضحة التي تنشأ من تراكمات العمل نفسه أمام النص الذي يتناوله.. فتصبح القصة عند ذاك.. وكأنها تقف على ساق واحدة.. فتكاد تسقط على الأرض بعد حين قصير. خذ مثلاً قصة «كلب السجان» لمحسن خالد، ابانت القصة بعضاً يسيراً من أهوال الحرب الاهلية التي أدمت وجه الوطن كله بل وشرعت تأكل جسد الوطن الكبير من أطرافه جميعها.. ولكنها - للأسف العميق - لم تقف لتسأل عن نشأة تلك الحرب المجنونة، ومن الذي كان يمول ويدير آلاتها الجهنمية تلك، ومن هو المسؤول عن تلك الفظائع الانسانية المهولة التي وقف العالم بأسره يصرخ باتجاه ايقاف عجلتها المجنونة، سكتت القصة تماماً عن هذا السؤال، ناهيك عن ان تجترح اجابات وشهادات ابداعية بصددها، وكذلك سكت عابدين عنها واكتفى بابراز «الانسيابية» في القصة التي رأي فيها مكمن الابداع واحد مكوناتها الاساسية، ولكننا نؤكد - في ذات الوقت - ان الحكم على القصة لا يكون بنهايتها فحسب، وانما بالحركة العامة للقصة وبمدى استيعابها وشمولها للحدث في علاقته بالحياة، اننا نريد ان نقول - ان الادب والفن عامة و«خطاب» القصة القصيرة بوجه خاص هو - بالاساس بنية حية تزخر بكل ما تمثله البنية الحية من تشكيل ملتحم التحاماً عضوياً بمادته وبوظيفته الفعالة المؤثرة... وتأسيساً على ذلك، يمكننا ايضاً أن نقول ان النص القصصي الجدير بهذا الاسم، ليست كينونة مجردة مطلقة خارج الحياة أو فوقها، أي ليس مجرد تشكيل جمالي في ذاته وانما هو تشكيل ابداعي نابع من الحياة نفسها، وتحقق الحياة عن طريقة استمرارها وتجاوزها بذاتها، انه اضافة خلاقة للحياة، لا لمجرد وصفها أو حتى نقدها بل لتغييرها نحو الافضل وتجديدها باستمرار وتثويرها بالاضواء الابداعية ذات الاشراق التي تتلألأ وتظهر وتلمع من بين ثنايا العمل القصصي، ودائماً ما نرى «ان القوانين» العامة والخيوط الاساسية لكتابة القصة هي قوانين معرفية، أي انها آليات وفعاليات «كاشفة» لحقيقة ما، ثم انها قوانين جمالية هي قوانين مفجرة للاحساس بالمتعة.. ولكنها بمعرفيتها وجمالياتها هي اساساً قوانين «وأطر» تتضمن حكماً وتقييماً بالنقد والدحض والادانة والتحريض والدعوة إلى التجاوز والتغيير.. سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر.. وفي هذه القصص يمكنك ان تجد ملامح هذه القوانين الابداعية جميعها، ثم انك تجد ايضاً آليات وثوابت تتيح للقاص صياغة معادلات هذه القوانين، وهي آليات وثوابت تجدها - احياناً كثيرة - واحدة متكررة وان اختلفت مسمياتها أو اختلف شكلها الظاهري. ولكننا نتفق مع عابدين بأن هنالك «تقصيراً» نقدياً تجاه الناتج القصصي الجديد.. على الاقل عند المقارنة مع المطروح النقدي تجاه الرواية والشعر والمسرح فهو في مواجهة القصة القصيرة قليل من ناحية الكيف تحديداً، وفي ظني ان ذلك يرجع لتخلف مناهج النقد الادبي نفسها، وتخلف تقنياته في مجال القصة القصيرة، فأغلب ما يكتب بصدد القصة القصيرة لا يخرج عن ان يكون احصاءً أو متابعة تاريخية أو تفسيراً للمعاني أو اصدار الاحكام العامة.. في قراءته لنص زهاء الطاهر «أسامة اب قرجة.. اسامة مطر الصباح» يقرأ عابدين بالمحبة «كلها» هذا النص البديع، مثل كتابات زهاء جميعها ثم يكتب مأخوذاً بحشد الرموز التاريخية والسياسية والثقافية والغنائية ثم بالانهار والبحار، ويتساءل كيف نجمع كل هذه الرموز والشخصيات وكل هذه الامكنة، وكل هذه الانهار والبحار الموزعة على جسد خارطة النص لفك شفراته المحيرة المدهشة. ويقدم عابدين اضافاته حول الاسم - أسامة أب قرجة (. ثم يتساءل.. ) فماذا فعل الاحفاد بوصايا الاجداد، وكيف أجابوا على الاسئلة التي ستحل اللغز، لغز الحياة ولغز الانسان؟؟ وهو يحمل اسئلته الكونية الكبرى بحثاً عن الاجوبة، وبحثاً عن تحقيق الحياة الحلم. ولكن، لقد كان ابداع زهاء كله يتمحور ويتجوهر حول هذا الواقع الراهن الحي، ولكنه يجعله يتأطر وينمو ويزدهر بابداع شفيف - حول تلك الرموز والشخصيات والامكنة والانهار والاحداث التي قرأها عابدين واشار إليها.. لقد كانت تجربة زهاء القصصية تتمتع بتلك الفيوض النورانية المشرقة لجدلية الحياة وجدلية الواقع في تلاحمه وتناغمه ونموه في ذات الوقت مع حيوات ومصائر وأمكنة وتجليات كونية تنبض بالحياة ويجعلها جميعها في خدمة الانسان.. لأجل تقدمه وغده الذي يراه قادماً، جميلاً معافى برفيف الحياة ونبضها العذب، ان تجربة زهاء تنتظر درساً كثيراً لمعرفة ما فيها من جدل الماضي والحاضر والمستقبل، جدل الواقع والحلم المرتجى، تماماً كما قال عابدين نفسه. أعجبتني جداً التفاتة عابدين إلى مأساة دارفور في فضاء القصة القصيرة، وهي الدراسة التي تناول فيها قصص كل من «مارتجلو، وذاكرة الحراز» لأحمد ضحية، و«الرحيل من شارف» لابراهيم اسحق، و«هجاء الجبل ودوسنطاريا» لمنصور الصويم، و«مساويط الرماد» ليوسف الهمري، و«مومو» الفاتح.. وهي جميعها قصص قصيرة تتناول بابعاد ورؤى تختلف بين قصة وأخرى - الحرب في دارفور - تلك الحرب التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. نحي ابراهيم عابدين الذي شغلته هذه القصص التي رأى فيها بعضاً يسيراً من ملامح الحرب والهول العظيم... وابرزها تحت ظلال العنوان البديع «الغزالة والبندقية».. ثم بعد ان اضاء ملامحها عبر ما تجمع لديه من «محبة» تجاهها.. تساءل بأسى بالغ: «متى تنتهي الحرب اللعينة لتمسح مريومة دمعتها وتعود لبنات التنجر وكل بنات دارفور بسماحتهن القديمة ليغنين ويرقصن المردوم؟؟ وعليك يا دارفور السلام.. فهذا هو حلمنا يا غزالتنا الجميلة. جميل جداً ما اشارت إليه هذه القصص الجميلة، وجميل ايضاً ما «كشفه» لنا عابدين من مظاهر وتجليات حرب دارفور «اللعينة».. ولكن ماذا فعلت هذه القصص للاقلال من أضرار وفظائع هذه الحرب؟؟ ولماذا لم تشرع في كف «اليد» التي تحرك وتدير هذه الآلة الجهنمية للحرب؟؟ اننا نعلن ونعترف بأننا نحبك جداً أيها الصديق ابراهيم عابدين.. ولهذا فإننا ننتظر ان تسلط أضواءك الباهرة لتكشف لنا عن العلاقات والدلالات والقيم غير المسبوقة التي تكمن في القصة القصيرة لان ذلك الكشف وحده هو الذي يتيح لك بهذه الكشوفات - تعبيراً وتجديداً وتطوراً للرؤية وللخبرة الانسانية.. فليس هنالك يا عزيزنا - ثمة قراءة بريئة!!