كشفت الحملة الانتخابية في ولاية جنوب كردفان بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وما تخللها من تصريحات متبادلة وتهديدات عنيفة بشان أبيي، أن السودان سيواجه اياما صعبة مقبلة، وان الجنوب الذي ذهب ثمنا للسلام يضرب طبول الحرب من جديد بتضمينه منطقة أبيي المتنازع عليها في دستور الدولة الجديدة التي لا تخفي استقواءها بالغرب واستثمارها لمشاعر العداء الغربي تجاه النظام السوداني، لأسباب عديدة منها ما هو منطقي ومنها ما هو غير ذلك. ومع اقتراب التاسع من يونيو تغيرت لغة الخطاب الجنوبي تجاه الشمال بصورة ملحوظة، حيث لم تعد الحركة الشعبية تفرق بين الحكومة أو الحزب الحاكم، وبين مجمل الكيان الشمالي وقيمه السياسية والثقافية والاجتماعية. وهو ما يعكس أن عقلية السلطة الحاكمة والسياسية في الجنوب سوف لن تتوانى في التحامل على الشمال والشماليين، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب العلاقات والتحالفات السابقة في فترة ما قبل الاستفتاء. وقد كشفت عن تلك المشاعر في قضية العقوبات المفروضة على السودان، حيث كان حرصها فقط على رفع العقوبات عن الجنوب وإبقائها على الشمال وهو ما قد حدث بالفعل. ورغم أن قضية أبيي مازالت معلقة رهن التفاوض ومحاولات البحث عن حل يرضي جميع الأطراف، فقد عمدت حكومة الجنوب إلى تضمينها باعتبارها منطقة تابعة للجنوب، وهي تراهن على الضغوط الأميركية والغربية قياساً على نجاحها في تمرير فصل الجنوب. وتعمل الآن أيضا بطرق مباشرة وغير مباشرة على تأليب حركات دارفور المسلحة، بتقديم مظاهر الدعم والإيواء لتصعيد العنف في دارفور عبر الحدود، بغرض إضعاف الشمال وممارسة الضغوط الخارجية عليه، وهي خطوات لم تنكرها بحجة أن الحكومة تؤلب عليها المنشقين. وتسعى أيضا بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى تصعيد حدة التباينات العرقية وإثارة التناقضات الاجتماعية تحت مسميات مظلة الهامش في جنوب كردفان والنيل الأزرق، اعتمادا على منسوبيها في الشمال، وقد عكس الحضور اللافت لقيادات حكومة الجنوب والحركة الشعبية في جنوب كردفان إبان الحملة الانتخابية هذا التوجه، رغم أن الجنوب يفترض انه دولة أخرى وإن لم تعلن رسميا لا يحق لها التدخل في انتخابات داخلية لدعم توجهات بعينها في دولة جارة مرتقبة، إلا اذا كان ذلك يمثل لها مصالح جوهرية في المستقبل، وإن كانت سلبا على الشمال. وتضاف إلى مجمل هذه المؤشرات حدة الخطاب التصعيدي والتهديد بنقل الحرب إلى الخرطوم حسب تصريحات مالك عقار والنفس العدائي المتزامن مع تأليب خارجي ملحوظ ينتقد تصريحات الحكومة في الشمال الرافضة لضم أبيي من خلال دستور الجنوب، ولا ينتقد الفعل نفسه وهو تضمين المنطقة المتنازع عليها في دستور لدولة جديدة. مما تقدم فإن السودان الشمالي مقدم على تحديات صعبة وجدية ورياح جنوبية ساخنة، وإن كان السبب فيها المعالجات الخاطئة لكثير من الملفات ذات الصلة، وضعف المفاوض الحكومي بسب الضغوط الخارجية، وغياب الإجماع الوطني والانفراد في تقرير مصير السودان من خلال حزبين فقط، إلا أن البكاء على الأطلال لا يفيد وعنتريات البادية في غير موضعها لا تجدى فتيلا. ورغم قناعة الشماليين في أحزابهم المختلفة برغبة الجنوبيين في الانفصال ورغبة الجنوبيين القاطعة في الانفصال التي عبروا عنها بنسبة «99.9%». ورغم الضغوط الخارجية العنيفة التي قررت ومررت فصل الجنوب لأسباب مختلفة مع وعود واهية بجزر التطبيع المبهم، إلا ان المخرج لن يكون الا في ظل إجماع وطني يمكن ان يكون أكثر أمنا للوطن، رغم ذهاب الجنوب الى غايته مخدرا بوعود الغرب. أم الآن فالشمال مواجه بعدة حقائق لا بد من التعامل معها ليس من خلال رؤية آحادية للحزب الحاكم بل من خلال إجماع وطني شامل، ينظر إلى مصالح البلاد العليا، ويسعى الى تجنيبها من المخاطر المحدقة باعتبارها أولوية قبل الانشغال بتفاصيل المساءلة عن الأخطاء والممارسات، رؤية تعمل على تحقيق الآتي: أولا: العمل على إنهاء أزمة دارفور وقفل ابواب العنف عبرتقديم تنازلات حقيقية وجدية تلبي طموحات أهل الإقليم دون إفراط أو تفريط، عبر مبادرة وطنية تساهم فيها جميع القوى الوطنية. لأن أي حل يأتي من قبل الحكومة لا يجد صدى لدى الحركات المسلحة التي ليست جميعها تتصرف بمسؤولية وحس وطني، بدليل استمرار المفاوضات بلا نهاية منطقية. ثانيا: ايجاد صيغة ديمقراطية شفافة مرضية للمشاركة في السلطة في مناطق جبال النوبة والأنقسنا في النيل الأزرق، لتحقيق الاستقرار في تلك المناطق، والاهتمام بها تنمويا واجتماعيا وثقافيا وإعلاميا لقفل باب التدخلات المحتملة من الجنوب، وإيجاد صيغ ذكية للتعاون والتداخل الاجتماعي تؤثر ايجابا لا سلبا في أمن تلك المناطق. ثالثا: العمل على إشراك كافة مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والقبلية في كردفان بدعم وإجماع سياسي وطني لايجاد حوار واقعي بين ابناء منطقة أبيي، يفضي إلى حلول شعبية وفق صيغة موضوعية للتعايش، دون تفريط في حق أهل المنطقة كما كانت في سابق عهدها، ودون تفريط يغري بمطالبات طرفية أخرى. ولن يتأتى ذلك دون قراءة واقعية من قبل الحزب الحاكم لما يحيط بالوطن من أطرافه وما يعتمل في دواخله من تحولات تقود إلى مراجعة حقيقية تفتح ابواب الحريات الأساسية والاجماع الوطني الفاعل وليس الصوري، وتؤسس لدستور ديمقراطي في دولة لا سلطان فيها إلا للقانون والقضاء المستقل. وإلا فإن البديل سيكون بالضرورة دوران دوامة العنف والعنف المضاد، والسودان مشحون بكل مقومات ذلك ومهيأ له، فضلاً عن انعكاسات ذلك على حياة المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، وإضعاف الكيان الوطني، وتعطل عجلة التنمية لتطل رؤوس للأزمة من جديد. ولعل القوى السياسية جميعها مطالبة بقراءة مماثلة لسيرة تحالفاتها السابقة ونتائج تلك التحالفات، خاصة مع الحركة الشعبية التي تنكرت للقوى السياسية في مواضع كثيرة ومواقف عديدة، حتى في ظل صراع تلك القوى مع الحزب الحاكم. مراجعة تقود طرفي الحكم والمعارضة إلى مخرج وطني ورؤية وطنية لواقع البلاد ومستقبلها في ظل الظروف المعقدة الحالية. *واشنطون