لم يكن (أدروب) حينما طلع خلف الطلاب في العهد المايوي في مظاهرة من جامعة الخرطوم وهم ينددون ويهتفون ضد جهاز الأمن المايوي بأعلى صوتهم (جهاز الأمن.. جهاز فاشستي) لم يدر أدروب معنى فاشستي ولكنه كان يردد خلفهم (جهاز الأمن جهاز لاسلكي) وذلك لمفهوم حاول ان يبثه النظام بأن جهاز الأمن له المقدرة على معرفة الكثير من الأشياء خاصة التي تصب ضد مصلحة البلد، وان له مقدرة على التقاط المعلومات تفوق جهاز اللاسلكي والذي كان أعجوبة في ذلك الزمان، فلهذا كان لادروب قناعة قوية جداً بان جهاز أمن نميري فعلاً قد يفوق جهاز اللاسلكي ولم يكن أدروب وحده كما تقول تلك القصة، ولكن كثيرا من الناس يعتقدون أن جهاز أمن نميري كان يعتبر الثاني في المنطقة بعد (الموساد) الاسرائيلي، من حيث الخبرة والكوادر حيث وضع رصيداً هائلاً من المعلومات لم تتوافر لغيره من الاجهزة النظيرة في المنطقة، ولهذا السبب طالب البعض بعدم حل الجهاز بعد انتفاضة رجب ابريل 1985 التي أطاحت بالنظام المايوي حيث تطل الذكرى الثانية والأربعين لثورة مايو في هذا الشهر الجاري. ومغزى قصة أدروب انه تعامل مع الحدث بذكاء فإذا مر دون مشاكل فان له حق المشاركة المظاهرة ضد النظام، وان صاحب الحدث اعتقالات فلا تثريب عليه لأنه كان يقوم بمظاهرة مؤيدة وهو يمدح الجهاز ويصفه بأنه (لاسلكي) وله القدرة على التقاط الاشياء والمعلومات دون عناء وسط مظاهرة الطلاب المضادة. ويبدو أن ذكاء أدروب غاب على كثير من الضباط الذين خرجوا من الخدمة وانخرطوا في المؤسسات المدنية، وان ذات الذكاء غاب على تلك الفكرة التي دعمها اللواء الزبير محمد صالح وقتها بأن تستوعب المحليات عددا من ضباط الجيش الذين تقاعدوا من الخدمة العسكرية وذلك لإضفاء نوع من الضبط والربط على أداء المحليات، ولكن (الطبع غلب التطبع) وظلت المحليات على حالها ولم يحضر الضبط والربط كما كان متوقعاً وأصبح أولئك الضباط جزءاً من الحالة العامة. وذات الفكرة لم تقدم جديداً وان كان الوضع فيها يختلف عن سابقاتها فقد تداعى للجهاز السياسي (المؤتمر الوطني) عدد من كبار ضباط والقيادات في جهاز الأمن على مر تاريخه في عهد الانقاذ الوطني حيث شغلوا مناصب قيادية في الجهاز الأمني وأيضاً تقلدوا مناصب رفيعة في الحزب بعد أن غادروا الجهاز ومن أبرز هؤلاء هم الدكتور نافع علي نافع والذي تولى قيادة جهاز الأمن في الخمس سنوات الأولى من عمر الانقاذ الوطني وأصبح دوره في الحزب هو دور الأمين العام والذي تم إلغاؤه بعد المفاصلة عام 1999 واستعيض عنه بمسمى جديد وهو نائب رئيس الحزب للشؤون التنظيمية والسياسية، ثم التحق بالحزب الدكتور قطبي المهدي الذي شغل منصب مدير الأمن الخارجي بعد أن كان سفيراً للسودان في ايران وعمل قطبي في أمانة المنظمات التي آلت إلى الدكتور مطرف صديق في التعديلات الأخيرة وهو أيضاً لم يكن بعيداً عن هؤلاء وان كان الغرض واضحاً من هذا التعديل هو أن يحصل تناغم بين الأمانة السياسية والوزارة التنفيذية والتي يشغل فيها مطرف صديق وزير دولة وان كان هذا الأمر لم يحقق نجاحاً حين جمع بينهما الأخ كمال عبيد في الاعلام وربما اختلف الوضع في الشؤون الانسانية هذه المرة. وكان من أبرز القادمين من جهاز الأمن إلى الجهاز السياسي اللواء حسب الله عمر وتولى نائب الأمين السياسي وتمت استضافته في بعض الفضائيات تحت هذا المسمى قبل أن ينتقل أميناً عاماً لمستشارية الأمن برفقة صديقه صلاح قوش والذي دخل الجهاز السياسي من باب أمانة العاملين والفئات وهي أمانة مهمة جداً خاصة في ظل فوران الشعوب العربية في دراسة وتحليل الأسباب الداعية لقيام تلك الثورات. وكانت الدهشة من تدعيم حزب سياسي بكوادر أمنية وفي مناصب قيادية خاصة وان الحزب لا تنقصه الخبرات في هذا المجال ولا تنقصه الكوادر بمختلف فئاتها، ويبدو أن الحكمة التي غابت عن المراقبين في معرفة تدعيم حزب سياسي بكوادر أمنية هي ذات الحكمة التي غابت عنهم وعن غيرهم في توظيف ضباط متقاعدين في المحليات فغاب الربط والضبط في الأولى ولم يغب في الثانية، ولم تخرج الأسرار رغم الصراع الذي بدأ ظاهراً للعيان بين نافع وقوش حول الحوار السياسي مع القوى السياسية. والذي لم يكن ظاهراً للعيان هو ما صرح به القيادي في الحزب قطبي المهدي هو أن قوش يريد أن يصبح (رئيساً) وهذه تعني في نظر البسطاء في ان يحقق قوش حلمه في أن يكون رئيساً حسب قطبي فان أمام صلاح قوش خيارين الأول هو أن يكون مرشح المؤتمر الوطني في الانتخابات القادمة أي بعد عام (2015) بعد دورة البشير الحالية أو أن يقوم بانقلاب أو حركة تصحيحية تجعله على رأس النظام. أما الخيار الأول في ان يكون مرشح المؤتمر الوطني للرئاسة فهذه مستبعدة لأن هناك شخصيات لها وزنها السياسي والتاريخي في الحركة الاسلامية، فان القواعد لا تجد بداً من ترشيحها لهذا المنصب وبالتالي فان فرص قوش في الخيار الأول ضعيفة، أما الخيار الثاني فهو خيار الانقلاب فهو يعتبر مغامرة أولاً لأن الانقلابات تنفذ بالقوات المسلحة بعد ترتيبات معينة وبضمان مشاركة عدد من الاسلحة المهمة وبضمان عدد كبير من الضباط وبتنسيق كبير ومحكم وسري جداً وهذا هو السبب في نجاحات عدد قليل من الانقلابات وفشل الكثير منها، وبما أن قوش لا ينتمي للمؤسسة الأولى فان خيار الانقلاب إذا فكر فيه سيكون مغامرة وبالتالي فان الخيار الأول كمرشح للمؤتمر الوطني للرئاسة (ضعيف) وان الخيار الثاني خيار الانقلاب (أضعف). إذاً فالصراع الذي بدا ظاهراً بين نافع وقوش حول الحوار السياسي مع أحزاب المعارضة يأخذ شكلاً مختلفاً إذا وضعنا تصريح قطبي المهدي هذا مع تصريح د. الترابي بعد خروجه من السجن في تعليقه على إعفاء قوش من منصبه، قال الترابي ان قوش أعفته (تطلعاته) ومن هنا يفهم تصريح قطبي المساند لنافع هو الحد من تطلعات قوش وان كانت تصريحات قطبي قد أجملتها في حلم (الرئاسة). ورغم أن مخرجات هذا الصراع بين ضباط الأمن في المؤسسة السياسية (المؤتمر الوطني) جاءت سلسة وناعمة ودون مخرجات عنيفة كما كان متوقعاً وهذا يكشف ان ادارة الصراع تمت بعناية فائقة جداً وإلا كانت المخرجات ظهرت على السطح في شكل مختلف تماماً عن الواقع الآن. وغير بعيد من المؤسسة السياسية هنالك صراع يدور بين اثنين من الذين عملوا في جهاز الأمن وان كان في فترتين وحقبتين مختلفتين هما مايو والانقاذ الوطني وهما الآن على رأس مؤسستين اقتصاديتين وفي مجال مهم جداً وأيضاً له تبعاته الأمنية إذا لم يضع في الضوابط المعروفة وهو الصراع الذي يدور بين شركة سوداتل وشركة زين في التصريحات والاتهامات المتبادلة بين مدير الأولى المهندس عماد الدين حسين والمدير التنفيذي للثانية وهو الفريق الفاتح عروة وان كان واضحاً ان الكفة ربما تميل لصالح عماد باعتباره مهندساً وهو مجال أقرب للتخصص من عروة، وان عماداً عمل بهيئة التصنيع الحربي فضلاً عن مميزات أخرى تكون في صالح سوداتل يعلمها عروة قبل عماد الدين. ان بداية هذا هو تصريحات وتصريحات مضادة كشفت عن صراع خفي بين الشركتين والتي كل واحدة أنها صاحبت أكبر قاعدة مشتركين وان واحدة تفاخر على الأخرى بأنها لها أيادٍ بيضاء على الوطن والمواطن، وما نخرج به من هذا الصراع ان هنالك خللاً في العقود والتصديقات التي تحكم عمل شركات الاتصالات في السودان خاصة في قطاع مهم جداً مثل هذا. وحتى لا يكون الضحية المواطن والوطن يجب ان يعاد النظر في كل هذه المسائل التي تحكم عمل شركات الاتصالات في الحاضر والمستقبل والاستفادة من تجارب الدول في حكم الشركات الوطنية والشركات العابرة. بغض النظر عن الحيثيات التي قدمها عماد أو الأخرى التي قدمها عروة. وبالتالي لا نريد لزين أن تستفيد من ذكاء (أدروب) في ان تسير الأمور في مصلحتها فقط دون فوائد تعود للمشتركين بصورة غير مباشرة كما أشار عماد الدين، ولا نريد لسوداتل ان تحتكر الوطن في جنباتها دون الآخرين وذلك بأن تتكامل الصورة بالقدر الذي يخدم المواطن. فإذا تطور الصراع بين ضباط الأمن في المؤسسات المدنية خاصة على الشكل الذي دار بين عروة وعماد الدين فان الحكمة التي ظللت صراع نافع وقوش ستختفي وتكون العواقب صعبة خاصة في مجال حيوي مثل هذا. فالتطلعات في صراع ضباط الأمن في المؤسسة السياسية ذهب بصلاح قوش ، ولكن في المؤسسات الاقتصادية بمن يذهب؟