«1» عندما ومض البرق وقعقع الرعد سكن الهواء وتساقطت حبات المطر رذاذا ورشاشا كان منظرا ساحرا فجر مشاعر الاستاذة الجامعية تماضر فاستغرقت عواطفها الجياشة ترقب السحاب والغيوم ترجمتها دمعات سخينات تحدرن على خدودها حارة وسالت حتى لعقتها واحست بطعمها المالح على لسانها. لحظات حزينة مرت بخاطرها تندب حظها وعمرها الذي تسرب من بين يديها مثل الظل الهارب نحو الغروب مثل الطيور المهاجرة نحو الجنوب ملكتها الحيرة وهي تحسب عدد «الخطاب» الذين اتوا من الابواب يطلبون يدها لكنها كانت توارب دون دراية دون وقفة، دون ان تعطي فرصة لسماع رأي ومشورة حتى والدها الذي ظل حنونا رفيقا بها منحها ثقته ورعايته كانت بنته البكر بين اولاده والوحيدة لم تحظ بشقيقة تشاركها دلال البنات ومنافسة لها على حنان وحب والديها لذا وجدت رعاية خاصة ودخلت المدرسة مثلها مثل البنات وبان ذكاؤها المتقد بينونة كبرى وهي تقلب ايام التعليم مثل ما تقلب صفحات الكتب وتغادر محطاته مثل القطارات تخلف خلفها الذكريات الحلوة والمرة وإلى ذلك كان جمالها الثائر وشبابها البض يتفتح مع اشراقات الصباح بين قاعات الدرس وليالي الشتاء مثل الورد شذى فواحا تلهب عواطف الشباب النضر، عيون الناس تلاحقها تسرق منها ولا تدنو تترك الآهات في الصدور وختمت مشوارها متوجة معيدة بجامعة الجزيرة. «2» ثم كر العمر ثم فر العمر وانحسر مد الطلاب وغادر الخطاب لحظات بين دموعها المتقاطرة مراياها وجهها الشاحب وقوامها الذابل وبياضها الناصع يذوي مع تجاعيد تنخر في الجفون والوجه لم تصدق حسبتها السنين غادرت الاربعين الآن ها.. المال، هذه.. القصور، هل من عودة هل؟ تحسرت على الايام خالية رتيبة تمشي ساعات الجامعة... تشهد النوار.. الطالبات يتقافزن في الرياضة.. السلة، والطائرة نافرات الضفائر ثائرات ساحرات كانت تراقبهن كالفراشات المضمخة بزهو الالوان وخفة الخطوات ورشاقة الاجساد عندما عاودها الحنين تخلصت من احاسيسها وتحدت نفسها لن تنسى ذلك عندما اختارت ان تلعب مع البنات لماذا لا تمارس الرياضة وانطلقت في ميدان السلة وسط البنات تلعب الكرة وتحاول مجاراة فنون السلة، تقفز هنا وتنطلق مسرعة هناك وتلتحم مع اللاعبات الماهرات كانت الطالبات يفسحن لها المجال تقديرا واحتراما ونسيت نفسها كانت انفاسها تعلو ونبضات قلبها تعدو لم تشعر الا وهي محمولة خارج الميدان وعندما استردت انفاسها واستراح جسمها اعترفت انها قد كبرت وتقدم عمرها وانسحب بساط الشباب من تحت اقدامها واضاعت الايام البيض واقرت بأنه كان بامكانها الزواج والانجاب ومواصلة الدراسة دون عنت ومسحت دموعها وقرت قرارها بأن تبحث عن زوج بعقل كبير. وقلب مفتوح.. وجردت حسبتها القديمة. «3» لم يتصور ابراهيم ان يرى امامه الاستاذة تماضر في اناقتها ولم يخلد بباله ان هذا اللقاء مدبر.. المهم في تلك اللحظة هب واقفا دون شعور وكاد يطير وكلمات الترحيب الحار تنساب شلالا من الحديث العذب الذلال ثم استغلا باقي الجلسة في محاكمات ومرافعات عما كان وما سيكون كانت المصداقية وحسن النية وصفاء القلب احداثية انهت ذلك بعودة المياه وموافقة الاستاذة تماضر على الزواج وكانت الاستعدادات سريعة فالوضع المادي ميسر وتمت وكان الفرح اهازيج الاهل دموع الامهات السعيدات وزغاريد البنات بمنتهى الهدوء والبساطة تداعى الضيوف والمدعوون تناولوا وجبة الغداء وقدموا التبريكات.. الفرقة الغنائية التي احيت الحفل اختارت لتقديم العروسة اغنية الزفة المصرية للمطربة «عايدة الشاعر» وعلى لحنها الطروب الراقص الشجي «اتمخطري يا حلوة يا زينة يا وردة مفتحة جوه جنينه» فعلا كان الحفل مثل حديقة مليئة بالورد والفراشات من البنات والاولاد في ابهى الملابس وتقدم العروسان الى المكان المخصص لهما ويداهما متشابكتان والعروس تجر ثوبها الابيض وتتمايل على دقات الطبل وروعة الموسيقى. «4» غادرا الى مدينة كسلا وتمتعا بجمال القاش وخضرة توتيل وروعة التاكا ثم استقلا البصات السياحية الى مدينة دنقلا وغطسا في النيل وتلفحا باوراق النخيل وارتويا من جمال الشمال وسولت لهما نفسيهما ان يكملا الرحلة السياحية في احلى ايام العمر.. ثم يكذبا حديثهما فطارا الى مدينة الابيض عروس الرمال واستمتعا بالرمال والجمال والشواء.. حلف ابراهيم عليها الا يعودا الا بعد ان يغوصا في بحر الجنوب وهكذا اقلتهما الطائرة التي حطت بهما في قلب مدينة جوبا الخضراء طافا باحيائها المخملية وغابات الابنوس وانهارها وسهولها السرمدية واهلها الكرام ثم شدوا الحزام عودا حميدا من رحلة السلام والاحلام والانغام. وفي مدني انتهت الايام وعادت الى الجامعة تمارس عملها التربوي لتكتشف الهدوء الذي حل في نفسها والسكينة الدافئة تتخلل اعماقها وتبعث الاحساس القلق والاضطراب الذي كان يقض لياليها تسرب خارجا، مات الارق وانتهى السهر وحلت محله الطمأنينة ولذيذ النوم ورقة الاحلام. «5» في يوم بعد عودتها من العمل وهي منهكة تعد الغداء شعرت بدوار وسخونة زائدة وبعد الغروب ساقها زوجها وذهبا للعيادة وبعد الفحص والتحليل افادها الطبيب بوجود حمل.. كادت تسقط.. لم تصدق وفي المنزل تعانقا فرحا ورسما خططا واحلاما.. ودارت الايام بين العمل والمنزل مع حساب الخطوات والحرص والنظام..