مرت خلال الايام القليلة الماضية ذكرى رحيل البروفسير عبد الله الطيب والفنان عثمان حسين والصحفي سيد أحمد خليفة والشاعر صلاح أحمد ابراهيم وهؤلاء من رموز المجتمع ومشاهيره والموت كما يقولون نقاد يختار الجياد ولكن للموت دائرته وسطوته على البسطاء من الناس فهو يحكم بالفناء والغياب على الاحباب من كل بيت ويطرق كل باب وتظل عبرته الانسانية في كون المسيرة لا تستثني أحدا من الناس غنيا أو فقيرا كبيرا أو صغيرا، ومن عجائب الموت أنه بينما يموت المريض يموت كذلك الطبيب المداويا وقيل أن رجلا من الفرنجه حقق كل أسباب النجاح في الحياة من علم وثروة وحياة رغدة فقال له أحد خدامه يا سيدي قد بلغت المجد وأمتلكت الدنيا وحزتها بين يديك فرد عليه قائلا طالما هناك موت لا فائدة من كل ما ذكرت. وتبقى من أهم العبر هي أن تكون حياة الواحد منا للناس وبالناس وقد رحل عن الدنيا كثير من الناس وكانت لمن حلت علينا ذكرى رحيلهم مواقف لا تنسى وآثار تستقي منها الأجيال وتتفيا ظلالها مع كل كلمة وحرف ورائعة وصادرة ونحن لا نكتب عن موتانا من باب الجزع فكل نفس ذائقة الموت ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام ولكننا نعزي أنفسنا نتأسي ونقتدي بالأبعاد الإنسانية في كل راحل عرفناه وخبرناه وملت جونحنا سيرته العطرة وكم اعجبتني في الراحل بروفسير عبد الله الطيب الكلمات الرائعات التى جاءت على لسان البروفسير الحبر يوسف نور الدائم وهو يتحدث عن عبد الله الطيب في ذكرى وفاته الثامنة ليقول ان عبد الله الطيب هو استاذ كبير وهب حياته كلها للتدريس والتعليم وله معه مواقف وحكايات وطرائف جعلته يتحدث عنه وكأنه يقف أمامه قال بروفسير الحبر كتبت في إحدي المرات مقالة اطلع عليها عبد الله الطيب وكنت قد مدحت فيها أستاذي وأثنيت عليه ثناء عاطرا فقابله الراحل عبد الله الطيب الذي كان قد قرأ ما كتب عنه حرفا حرف وقال له والله يا دكتور الحبر مدحتني ولم تنس نفسك. قال له الحبر: كيف ذاك؟ فقال له ألم تقل أنني قلت للطلاب كذا وكذا وأنت الذي كنت ترد وأنا أقول لهم كلامه صحيح مالكم معاه؟ ويقول الحبر: لا يوجد بيت من الشعر العربي الا ويعرفه عبد الله الطيب. قال الحبر: لقد غصت في مكتبة جامعة الخرطوم ووجدت في ركن قصي كتابا قديما فيه قصيدة لشاعر عربي جاهلي يصف التمر وظننت انني الوحيد الذي يعرف هذا البيت من الشعر وفي إحدي المرات قمت بزيارة الى البروفسير عبد الله الطيب في منزله وقدم لنا تمرا وما أن قلت الشطر الاول من بيت الشعر الذي يصف التمر حتى أكمل هو الشطر الثاني .. وعاد الراحل عبد الله الطيب ذات مرة من مكةالمكرمة وكانت له لحية صغيرة ويقول الحبر: انني امسكت بلحيته وقلت له إنها مليحة.. وما كان لاحد أن يجرؤ على ذلك غير الحبر يوسف نور الدائم الذي كانت له مكانة خاصة عند أستاذه عليه رحمة الله. ويقول لقد كان صعبا ما حد يستطيع الاقتراب منه. ومن الجوانب الانسانية للرجل ما ذكره الدكتور الحسين النور الذي كان يرافقه في تسجيل حلقات في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم للاذاعة السودانية كما كان الشيخ صديق أحمد حمدون رفيقه في برنامجه بالاذاعة دراسات في القرآن الكريم .. يقول الحسين النور كان البروفسير يصر على قيادة سيارته بنفسه ظنا منه أنه لو اصطحب معه سائق سوف يكون السائق في هجير الشمس وهو داخل استديوهات الاذاعة وهي مكيفة الهواء وهذا لايليق .. وعرف عن البروفسير عبد الله الطيب أنه كان يكفل الايتام ويحنو على الفقراء وطلاب العلم. أما الاستاذ سيد أحمد خليفة أبو السيد كما يحلو لأصدقائه أن ينادونه فقد سطر عنه الاستاذ كمال حسن بخيت متناولا هذه الذكرى بكلمات الصديق الذي خبر صديقه وعرف معدنه وقد تفاني الراحل سيد أحمد خليفة وصنع لنفسه مجدا وصار علما من اعلام الصحافة في الداخل والخارج حيث عمل وكتب في معظم الصحف السودانية كما عمل بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية وبصبره وتكبده المشاق والاغتراب عن الوطن بحثا عن الحقيقة في أدغال إفريقيا كان هو الصحفي الوحيد الذي يملك معلومات عن الرئيس الصومالي محمد سياد بري وعن شعب الصومال. وهو ايضا من وثق لحياته الخاصة والعامة بكل صدق وأمانه وكتب مذكراته على ضوء الشموع والفانوس ومن داخل السجون. وكان سيد أحمد خليفة عليه رحمة الله هو الانسان الوحيد الذي يمنحك الانطباع بعنفوان الحياة ولكنه في حقيقة الامر يتلاشى في كبرياء الجبال وغروب الشموس لما كان يعانيه من مرض وسقم أفنى جسده العتيد ولازمه من وعكة لوعكة حتى فاضت روحه إلى بارئها. وتداعى الناس من كل حدب وصوب لتخليد ذكرى رحيل الفنان المبدع عثمان حسين في قاعة الصداقة بالخرطوم، وعثمان حسين هو الوحيد الذي عرف سر الحياة وربيع الدنيا ورفض فيها معاتبة الحبيب ومصارحته وإلقاء اللوم عليه ورفض أن يصدق أي وشاية أو همهمة في حبيبه الروح بالروح ورفض مبدأ اللوم لانه يعكر صفو الصلات بين الأحبة ويكدرها وقد دخلت أحد المعاهد العلمية المرموقة في الخرطوم اخيرا وهي كلية التمريض العالي وقلت لصديقي ان كلية التمريض هذه تذكرني بحضوري أول حفل غنائي في حياتي وكان العام 1978م بمناسبة تخريج طالبات الكليه وغنى فيه كل من عثمان حسين وأحمد المصطفى وسيد خليفة وخوجلي عثمان وكأنما الفن السوداني قد اجتمع لي في تلك الليله وانا الطفل الصغير القادم للعاصمة القوميه لأول مرة في حياتي من البادية وكان عثمان حسين يتغنى بأغنيته الجميلة والمحببه لنفسه قبل الآخرين وهي أغنية أوعديني بكلمة منك واحكي لي عني وعنك وين حنانك وين مكانك وين .. وكان الجمهور من عشاقه يرددون وراءه تلك الأغنيات الجميلات وهو ينحني تحية واجلالا للناس الطيبين الذين بادلوه حبا بحب واعطوه الثقة في نفسه وفي اغنياته وطريقته المتفردة في الغناء والشدو الجميل وحلو الكلام. وقد رحل عنا في الايام القليلة الماضية، الاستاذ عابدين سمساعة ولم تجمعني مع الراحل مؤسسة صحفية واحدة ولكني التقيته في ساحة العطالة التي اجبرتنا سويا على الاتجاه لسوق الله واكبر لعدة سنوات. وكنت اقابله بصحيفة أخبار اليوم التي عمل بها سكرتيرا للتحرير نلتقيه هاشا باشا طيب المحيا وبدا في السنوات القليلة الماضية ظاهرا عليه الاعياء ولا يتحدث إليك محاولا الضحك إلا تنتابه نوبة من السعال تكاد تقطع أنفاسه وهو يكد من أجل التغلب عليها وظل هكذا حتي توارى عن الأنظار ونعاه الناعي وهو يرحل عن هذه الدنيا وقد اعجبتني الكلمات الطيبات التى خطها في حقه صديقنا وتلميذنا في العمل الصحفي د. عبد المطلب صديق والذي لو سمع الراحل سمساعة كلمة تلميذنا هذه لوقع علي قفاه من الضحك. قال عبد المطلب رد الله غربته وأعاده وحرمه الزميلة عايده لوطنهما سالمين غانمين قال :ان سمساعة مات كما الاشجار ثابتا على المبدأ وقد ذكر الدكتور عبد المطلب مالم أكن أعلمه عن الراحل وهو انه اعتذر عن العمل بصحيفة الإنقاذ الوطني التي صدرت بعد أشهر قليلة من إنقلاب 30 يونيو 1989م بسبب ان سياسة الثورة الجديدة لم تكن تتفق مع مبادئه الداعية للحرية والديمقراطية والصحافة الحرة وان الدكتور محي الدين تيتاوي قد رشحه للعمل بصحيفة الانقاذ ولكنه رفض مستعصما بقناعاته ورؤيته قال : د. عبد المطلب ولم تجبر سمساعه الفاقه ولا العوز الى العمل الصحفي الذي هو مهنته وتخصصه وميدانه ولم تقهره الليالي العصيبة ولا التحديات التي عصفت بالكثيرين من زملائه فتقلبوا في الصحف صاغرين فقهرتهم الحاجة وازرت بهم الايام وعابدين سمساعة كان نسيجا وحده وحريا بالاتحاد العام للصحفيين السودانيين ان يطلق جائزة باسمه تتعلق بالحريات الصحفية والاخلاص للمهنة في كل الظروف وخيرا فعل الاخوه في رابطة الاعلاميين بدولة قطر حيث تحدث بعضهم مع الاخ د. عبد المطلب صديق وعبروا له عن رغبتهم في المساهمة الماليه لتمويل جائزة باسم الاستاذ عابدين سمساعة تتعلق بالحريات الصحفية والاخلاص للمهنة. وغيب الموت الاستاذ الكبير أحمد عمرابي في الايام القليلة الماضية وهو من الصحفيين المتميزين ذوي الاهتمام بقضايا الناس والعلاقات الاجتماعية وكان عمرابي صديقا الراحل محجوب عوض الكريم والاستاذ عبد الرحمن رضوان وكانت معرفتنا الحقيقية للراحل عمرابي غير العمل الصحفي من باب العلاقة والصداقة مع محجوب عوض الكريم الذي رحل في حادث حركة اليم وهو في طريقه لشمال كردفان وفد مقدمة لواليها الاستاذ محمد أحمد أبو كلابيش وكان محجوب وعمرابي ورضوان لا يفترقان ولا يكفنا عن الضحك والمواقف الطريفة والأنس اللذيذ.