فى الوقت الذي كانت تبدي فيه الحكومة تفاؤلا كبيرا في أن تحقق لها وثيقة سلام دارفور «السلام العادل» فى الاقليم، مقارنة باتفاقية أبوجا، وتعول فى ذلك على وجود أجواء إقليمية ودولية وداخلية مواتية.ولا تتأخر فى التثمين على لسان كبار مسئوليها على ما احتوته هذه الوثيقة الأخيرة، لجهة دقة ووضوح النصوص التي اتفق عليها مع التحرير والعدالة. انطلقت التهديدات من مختلف الحركات الدارفورية المسلحة فى الاقليم بالتصعيد العسكري ضد القوات الحكومية، وبلغت التهديدات حد الوعيد من حركة العدل والمساواة بتكرار تجربتها باقتحام الخرطوم نفسها، فى اطار تأكيد رفضها التام لاتفاق الدوحة لسلام دارفور الذي أبرمته الحكومة السودانية مع حركة (التحرير والعدالة).وقالت الحركة إن قواتها قادرة على إعادة الهجوم الذي نفذته في مايو 2008 على الخرطوم، غير ان العدل والمساواة اشارت الى ان الهجوم هذه المرة سيكون بالتعاون مع حركات أخرى تتخذ ذات موقفها الرافض لاتفاق الدوحة. واشارة المساواة هذه تبعث بالمزيد من القلق لدى المتابعين للشأن الدارفوري من اجتماع حركات دارفور المسلحة خلف البندقية، فى الوقت الذي كانت التوقعات تذهب الى ان تتفق الحركات على اجندة مشتركة لحوار سياسيا مع الحزب الحاكم، بعد انفضاض جولة الدوحة لحل ازمة الاقليم المتطاولة. بيد ان مسؤول ملف دارفور ومستشار الرئيس د. غازي صلاح الدين شدد على اغلاق الباب امام التفاوض من جديد،مشيرا الى أن أية حركة فى الاقليم المضطرب لا تملك حق النقض في هذه الاتفاقية،ومؤكدا على أن وثيقة سلام دارفور التي وقعت في الدوحة نهائية ولن تفتح أبدا، وأوضح أن التفاوض مجددا حولها سيفضي إلى مفاوضات مستمرة ولا نهائية مثلما يحدث بين فلسطين وإسرائيل.والاعلان الحكومي هذا جاء ليؤكد على ماسبق من تصريحات قطعت بسد مسار المفاوضات مع اي حركة دارفورية مسلحة بعد انفضاض سامر الدوحة. وهو كما نرى يضع الحركات المسلحة والحكومة فى الخرطوم فى مسار متصادم.وهذا ما قد يفسر تصريحات العدل والمساواة العدائية. الا ان الناطق باسم القوات المسلحة قد قلل فى تصريحات ل» الصحافة» بالامس من تهديدات المساواة واعتبرها فرقعة اعلامية لجهة نجاح الحكومة فى توقيع اتفاق الدوحة، وقال العقيد الصوارمي خالد ان القوات المسلحة تنتشر فى طول البلاد وعرضها،كاشفا عن تكبدها الخسائر تلو الاخرى فى الاقليم، ناهيك عن دارفور. ورغم ان تصريحات العقيد الصوارمي تضع تهديدات المساواة ومن بعدها حركات مني ونور فى سلة الكسب الاعلامي الرخيص،فان الواقع على ارض دارفور الشاسعة يشي بضبابية لافتة، اذا ان التفلتات الامنية وآخرها الاعتداء على معتمد دمسو، والغارات المتواصلة على قرى ومحليات تمدد من مساحات القلق من مصير الهدوء والاستقرار الهش فى الاقليم.غير ان الخبراء الامنيوين الذين استطلعتهم» الصحافة» مضوا الى ذرع مزيد من الشكوك حول جدية هذه التصريحات، واهداف العدل والمساواة ومن خلفها الحركات المسلحة منها. فقد قال السفير السابق والخبير الامني عثمان السيد انه ليس بمقدور حركة العدل والمساواة الاقدام على ذلك،فالعدل والمساواة بحسب السيد كانت تعتمد على النظام الليبي تماما فى تسليحها ومعداتها ولوجستياتها، وهو الامر الذي لم يعد متوفرا بعد تضعضع هذا النظام وانشغاله بالدفاع عن وجوده.ويدعم السيد ماذهب اليه الناطق باسم القوات المسلحة بان الامر لايعدو فرقعة اعلامية ليس الا،ويزيد» حركة اللا عدل واللامساواة لا تستطيع ان تفعل شيئا».مشيرا الى ان هجوم الحركة السابق على العاصمة الوطنية ما كان له ان يتم لولا الدعم المكشوف الذي قدم لها من ليبيا وآخرين، وهو الدعم الذي سكتت عنه الحكومة لتقديرات تخصها واسباب معروفة.ولكن الخبير الامني الآخر يطالب بالتعامل مع تهديدات الحركات بجدية،ويشير العميد معاش حسن بيومي الى ان هذه التهديدات يمكن ان تكون للتمويه من قبل العدل والمساواة، بحيث يتم التركيز على الخرطوم، لما للمكان من حساسية لدى الاجهزة المعنية، وتكون الضربة فى مكان آخر من مساحة السودان الشاسعة.وينصح العميد بيومي الاجهزة المعنية بدراسة كل الاحتمالات الاخرى المتوقعة وغير المنظورة ذلك»لان المهددات الامنية لا يمكن التعامل معها بردود الافعال»،لافتا الى ان نقاط الضعف فى الخارطة الامنية لا يمكن الحديث عنها علنا،مضيفا» هذا ما يستوجب التعامل بمسئولية مع هذه التهديدات».ثم يتجه الخبير الامني بدوره الى التحذير من ما يصفه ب» الشهية المفتوحة لتمويل العمل المسلح» من جهات مختلفة، ومن السيولة الامنية التي تتصف بها الحدود الممتدة لاكثر من ألفين كيلومتر بين دولة الشمال ودولة الجنوب،مبديا توجسه من استغلالها من قبل اي قوة معادية للوصول الى اي مكان فى قلب البلاد دون ان يعترضها احد. بيد ان القيادي السابق بالحركة آدم علي شوقار اعتبر فى حديثه ل» الصحافة» بالأمس تهديدات المساواة محاولة للضغط على الحكومة لتقديم تنازلات اكثر تتسق مع رؤية الحركة لحل الازمة فى دارفور، فى اي مفاوضات تجمع الطرفين مجددا،ويشير شوقار الى ان المساواة تعتقد ان منبر الدوحة» حقهم» قبل ان يسطو عليه التجاني السيسي،ولذلك يضيف شوقار»لن تكون هنالك ذراع طويل مرة اخرى». ولكن الرجل يستدرك بقوله» حتى وان كانت لديهم عملية اخرى باسم دارفور،فاننا نرجوهم ان يتجهوا نحو السلام» ويضيف القيادي الدارفوري الذي وقع مع الحكومة اتفاقية للسلام فى اديس ابابا باسم ،حركة وجيش تحرير السودان القيادة العامة،»نحن ضد اطلاق الرصاص باسم السلام وقضية دارفور».على ان تهديدات العدل المساواة باقتحام الخرطوم وكسر هيبة النظام الحاكم، حملت معها مؤشرات لا تخفى على احد، بان الحركة قد غيرت من نهجها الانعزالي وطريقة تعاطيها مع الحركات الاخرى فى الاقليم،والتي كثيرا ما وصفتها بالفوقية. فالمساواة عبر هذا التصريحات الملتهبة تقبلت مشاركة حملة السلاح الآخرين فى حملتها من اجل تحقيق الاهداف المعلنة، وهو ما يعني موافقتها ضمنيا على توحيد الاجندة المتنازعة بين قيادات الحركات وجنرالاتها العديدين. ويقر فى هذا الشأن القيادي آدم شوقار بامكانية ان تتحالف المساواة مع فصائل حركة التحرير بما فيها فصيلي مني ونور تكتيكيا فى هذه المرحلة ،الا انه يستبعد تحالفا استراتيجيا بعيد المدى،وجزم فى المقابل باستحالة حدوث اي اتفاق بين مني ونور تماما على اي صعيد، وينطلق شوقار من واقع درايته بطبائع الرجلين عندما كان المنسق العام لحركة تحرير السودان عند انطلاقها اول مرة ليشبه العلاقة بين نور ومني ب» الضرائر»، قاطعا بعدم قدرة القياديين على التفاهم والتعايش داخل حركة واحدة.ولكن مشروع توحيد الحركات المسلحة ودفعها باتجاه الجلوس معا لتوحيد المواقف والاهداف،لم يعد قاصرا على العدل والمساواة التي دفعت بذلك فى السابق كما تخطى هذا الهدف حدود الاهتمام الدولي المبذول هذه الايام فى اتجاهات اخرى، ليس اولها دعم استقرار الدولة الجديدة فى الجنوب، فالذي يشخص للعيان الآن الجهود التي بذلتها الحركة الشعبية فى شمال السودان، لمحاولة دمج حركات التحرير المتواجدة فى كمبالا، وهذه الخطوات كشفت عنها مصادر ل» الصحافة» بالامس قالت ان لقاءات جمعت رئيس قطاع الشمال بالحركة الشعبية مالك عقار، ونائبه ياسر عرمان بقيادات الحركات المسلحة بالعاصمة اليوغندية كمبالا، وان ابرز القيادات التي شاركت فيها عبدالواحد محمد نور ومني اركو مناوي وصلاح ابوسرة وعبدالعزيز دفع الله وخميس ابكر. وقالت المصادر ان اللقاءات بحثت مقترحاً من قطاع الشمال بدمج الحركات المسلحة في قطاع الشمال وتوحيد الجهود السياسية والعسكرية ضد الخرطوم، بيد ان المقترح قوبل برفض تام من قبل الحركات . واشارت المصادر الى ان قيادات الحركات المسلحة وجهت انتقادات لاذعة للحركة الشعبية بسبب ضعف مواقفها حيال قضية دارفور، وعرضت على قطاع الشمال التحالف معها في المرحلة المقبلة والاستعاضة به بدلا من الدمج.ويشكك القيادي الدارفوري آدم شوقار فى دوافع الحركة الشعبية للاتفاق مع حركات دارفور المسلحة، معتبرا ان الحركة الشعبية حققت اهدافها الرئيسة فى انفصال الجنوب، وضمان اوضاع خاصة للمناطق الثلاث،ناصحا الحركة الشعبية بالشمال ان تتسق مع المتغيرات وتجد فى البحث عن صيغة للوجود وللتعايش مع الدولة فى الشمال،وليس الضغط عبر طريق دارفور، ورأى شوقار:» تدخلهم فى ازمة دارفور لا يخدمهم ولا يخدم القضية الوطنية». غير ان القيادي الدارفوري يغفل وهو يذهب الى ذلك، الدعوات التي انطلقت بعد انفصال الجنوب لتوحيد القوى المعارضة للحكومة، ولئن استعصمت القوى السياسية والاحزاب بفضيلة الحوار مع الحزب الحاكم للوصول الى مشتركات حول القضايا الاساسية المطروحة على الدولة الجديدة فى الشمال، فان غالبية القوى والحركات تنحو باتجاه الاعتماد على الخيار الاسوأ رفع السلاح.