إذا كانت الخرطوم العاصمة وبقراءة سريعة لبعض المؤشرات تستهلك ما نسبته (70%) من جملة المطبوع من الصحف، وتستأثر ب(70%) من جملة الاستثمارات في طول البلاد وعرضها، واستحوذت أخيراً على (70%) من العملة الجديدة، فان ذلك يعني ببساطة ان كل الصيد - على قلته - في هذا السودان في جوف الخرطوم التي كوّشت على كل شئ حتى أُصطلح على تسميتها بكرش الفيل وكاد السودان يصبح هو الخرطوم والخرطوم هي السودان وما عداها ليس سوى قفار وبوادي وقرى مقفرة ينفر منها الناس خفافاً وثقالاً إلى الخرطوم فراراً من البؤس والشقاء وانعدام أسباب الحياة لظروف ومشاكل مختلفة، ومن كثرة توالي الهجرات من الولايات والأرياف إلى العاصمة حتى صارت هي نفسها قرية كبيرة بحجم وطن وقد أفرز هذا الوضع المختل من جهة العديد من المظاهر السالبة التي عادةً ما تخلّفها مثل هذه الهجرات، ومن جهة أخرى وفر المرارات والمبررات الموضوعية لنشوء العديد من حركات الهامش الاحتجاجية، بل أن بعضها وبسبب سوء التعاطي مع مطالبها العادلة حمل السلاح في وجه الحكومة ما أخرج هذه القضايا من اطارها المحلي فتضخمت وتدولت وصارت شأناً دولياً يناقش على كل الموائد والعواصم الخارجية ما عدا العاصمة الوطنية... ربما كان لاستئثار المركز بالسلطة والثروة وسيطرة الوسط النيلي على مقاليد الحكم والاقتصاد والخدمة المدنية والعسكرية ....الخ، أسباب تاريخية فرضت نفسها ،لم تكن نتيجة تخطيط وتدبير مسبق عمد إلى تكريس خدمات التعليم والخدمات الاخرى بهذا الجزء من البلاد وغير ذلك من رصيد تاريخي وحضاري لم يتوفر لبقية الاجزاء الأمر الذي أدى إلى تميز ساكني هذه المنطقة على من عداهم وجعلهم يبدون متقدمين عليهم، ولعل هذا ما قاد إلى ظهور الحركات الاقليمية منذ الستينيات وما يزال مدها متواصلاً إلى يوم السودان هذا.... ولكن مهما كانت موضوعية الاسباب التي ميزت جزء من الوطن وفئة من أهله دون أن يتعمدوا ذلك، إلا انه ليس هناك مبرر يبقى الوضع على ما هو عليه بعد مرور كل هذه السنين المتطاولة، كان لابد من معالجة هذا الاختلال عبر سياسات وبرامج تنمية حكيمة تخلق التوازن المطلوب في تقسيم الثروة وترسي دعائم العدالة المرجوة في اقتسام السلطة بما يزيل التفاوتات ويقضي على الغبائن ويقيم القسط ويبسط العدل بالسوية بين مختلف ارجاء البلاد، صحيح أننا ظللنا نسمع ونقرأ عن مثل هذه المعالجات ولكنها للأسف لم تعدو حتى الآن ان تكون مجرد أماني - صادقة أم كاذبة - الله أعلم - وليس أصدق على ذلك من القول الخطير الذي ألقى به مدير البنك المركزي دون أن يلقى له بالاً وذلك حين قال انهم قد خصصوا (70%) من العملة الجديدة لولاية الخرطوم وحدها بينما تركوا الباقي (30%) لباقي الولايات مجتمعة، فهذه المقولة وحدها تكشف بجلاء أن الاختلالات القائمة ما تزال تراوح مكانها واننا لم نتقدم قيد أنملة باتجاه تصحيح الاوضاع وهنا مكمن الخطورة الذي لا يبشر بخير...