نشأت الأحزاب السياسية السودانية منذ الاستقلال بفكر واحد ورئيس واحد لم يتغيير رغم تغير الظروف والأحداث التى مر بها السودان، طوال فترة حكمة منذ الاستقلال حتى الآن، ووعود وخطابات سياسية مخجلة يتوارى من سماعها السامع خجلاً، إنها السياسة اللعبة اللعينة التى لم يدرك كنهها ساستنا، فأصبحت البلاد تترنح عاجزة عن المسير التنموى بفضل برامج السياسات القاصرة ذات النظرة الضيقة والاهداف المحدودة التى لا تقنع قائلها ناهيك عن السامع لها، فأحوال الماضى تغيرت ومشكلات البلاد تنوعت، وشملت كل مساحة السودان التى فقدنا جزءاً منها. وكان ينبغى أن نعى الدرس ونفيق من الغيبوبة التى دخلنا فيها ساسة ومواطنين، وأن نترك دولة الجنوب فى حالها ونتوجه لحل مشكلاتنا، ولكن يبدو أن الدرس لم يكن واضحاً، بحيث لم نر أية بوادر للاصلاح السياسى حتى الآن، فالحكومة فى وادٍ والمعارضة فى وادٍ آخر، بل داخل الحكومة نفسها البعض فى وادٍ والآخر فى وادٍ آخر، تضارب فى القرارات وتقاطع وتراشق فى التصريحات، بل وصلت بعض التصريحات درجة من العنف وكأن التحدى أصبح يحسم بقوة القرارات . وشىء مخجل سوف يضعنا بالكاد فى مؤخرة الدول حتماً، المعارضة السودانية ضعيفة وليست لها أهداف واضحة، تصريحات لا تفيد ولا تروى غلة الصادى، حديثها همس وهمسها حديث، وهذا الضعف بالطبع أصبح عنصر قوة للحكومة، بل جعلها لا تهتم بما تقوله المعارضة، وهذه مصيبة، فالمعارضة القوية تجعل الحكومة بصيرة مدركة بحيث تتجنب مساءلة المعارضة، وهذا ما نفتقده الآن، معارضة كل همها مقعد فى وزارة فقط، ترضيات خاسرة أصابت الجسم السياسى بالوهن والضعف، وجعلت السلطة تعتقد كل ما تقوم به من عمل صحيح، وهذا بالطبع قمة الفشل السياسى، والمعارضة ضعيفة وملها الشعب السودانى، لذلك قلل ذلك من قيام الشعب للأخذ بحقه لفقدانه الثقة في من يتحدثون باسمه، فكان موقف الشعب متفرجاً لكل ما يحدث معبراً عن سخطه بصمت وآهات ساخره بدأت تدخل فى الثقافة السودانية، ممثلة بعد سياسى واجتماعى وثقافى لم نعهده من قبل، فقد ظهرت النكتة الساخرة ونمت بديهة حاضرة سوف تعمل على تغيير بعض سمات المجتمع لاحقاً. فالشعب السودانى لا ينتظر من المعارضة تحقيق طموحاته، وكذلك فقد الثقة فى مصداقية حكومته لعدة اسباب، أقلها المعاناة اليومية التى يعانيها فى الحصول على قوت يومه غلاء طاحن وعلاج مرتفع القيمة رغم الإعلانات بتعميم التأمين الصحى، وتعليم يحتاج لمبالغ طائلة رغم إعلان مجانية التعليم، فالمواطن يدفع يومياً من الروضة حتى الجامعة، وكل يوم الأمور تصبح أكثر تعقيداً، والسياسة صامتة والساسة فى صراع داخلى مخاطره عظيمة ويعود على المواطن بزيادة الأعباء. ورغم ذلك نسمع دخول البلاد فى الجمهورية الثانية، والسؤال هل تم تقييم الجمهورية الأولى التى ختمناها بالانفصال وضياع الثروة منا؟ ناهيك عن الاتفاقيات والقرارات التى صدرت وكلها خصماً على وضعية البلاد إدارياً وسياسياً، إذن محصلة جمهوريتنا الأولى غير مشجعة بل أضعفت مسير البلاد التنموى، ثم ما هى الفرضيات التى دخلنا بها الجمهورية الثانية؟ اقتصاد منهار زالت بنياته الأساسية، وذهب نفطه وغابت زراعته، وأهملت مشاريعه وتجزأت قنواته، لدرجة أن المزارع نفسه ترك الارض وتوجه يبحث عن مصدر رزق دون الأرض. والمشكلة أننا فرحنا بالبترول وهللنا وكبرنا به، وتركنا مرتكزات اقتصادنا الأولى من قطن وصمغ عربى وخلافه، هجرنا الارض فهجرتنا، واعتقدنا أنفسنا دولة بترولية من الدرجة الأولى، فجلبنا العمالة من الخارج، وبيوتنا امتلأت بالخدم والحشم، وبدأنا ننظر بعين المالك، ففتحت شركات الاستقدام والاستخدام شأننا شأن دول النفط، وازدانت مكاتب الدولة بالاساس الفاخر والالوان الجميلة وأصبحت آية فى الروعة والجمال، وفجأة لعبت السياسة دورها وزالت كل فرضيات الامل والحلم الجميل، وأصبحنا نندب حظنا العاثر، فقد زال النفط من اقتصادنا ورجعنا للوراء مسافة طويلة، وحاول الساسة تبسيط الأمر بالخطب والقرارات الداعمة للشعب كى يصمد فالفرج قادم، وأصاب الشعب اليأس وتحطمت كل بذور الامل فى نفسه، لذلك أصبح لا يثق فى حكومة ولا معارضة، والنماذج كثيرة، فقد ضاقت الارض بأهلها، وتضاعفت وتوالت عليهم المصائب، وازدادت المشكلات، التعليم والصحة والحياة اليومية، غلاء طاحن أصاب السوق ولا حياة لمن ينادى، فيا لها من معضلة. الغريب وأنا أتجول فى احد الاسواق رأيت احد المطاعم مفتوحاً وهذا بالطبع لزوم الاعذار، واقتربت من صاحبه وهمست فى أذنه كيف فعلت ذلك؟ فأجابنى بأنه استخرج تصديقاً من المحلية ودفع رسومه، كذلك أدركني الأذان وأنا فى احدى المناطق، فذهبت لموضأ احد المساجد ودفعت رسوم الدخول للحمام، فاجأني الرجل بأن المبلغ قد زاد، فدفعت واسترحت وصليت.. شىء جميل إذا تم توظيف المبلغ فى خدمة هذه المرافق. وعندما غادرت روادنى شك، وهذا ما أخشاه، ألا تكون هذه الرسوم ضمن موارد المحلية، على أى حال تعددت أوجه الجباية والمواطن صامت. والحياه العامة اصابها الخوف من القادم، لأن القادم أخطر والساسة نيام لم يستيقظوا من غفوتهم حتى الآن. والنتيجة أن المواطن فقد الأمل فى الإصلاح وهو يدرك أن البلاد لا تحتاج الى ثورة مادام قادتها همهم الكراسى، لذلك يئس وعرف بفطنته أن التغيير بهذه الصورة ليس من مصلحته مادامت هنالك معارضة ضعيفة مدعية الحديث باسمه، والحكومة عاجزة الآن عن الاصلاح لاسباب كثيرة، أقلها انهيار الاقتصاد بعد الانفصال. إذن الجميع فى انتظار الحل من رئيس الدولة وحده لإنقاذ ما يمكن انقاذه، لأنه يملك قرار الحل ويملك قوة الحل، ولا يتم ذلك الا باتفاق كل القوى السياسية داخل نطاق الاحزاب الضعيفة. وداخل المجتمع السودانى هنالك فئة تؤمن بالتغيير خارج دائرة هذه الاحزاب، وفيهم عدد كبير من الاسلاميين الذين يعتقدون ان الحكومة لم تقم بواجبها بالصورة المطلوبة حتى من الناحية الدينية، لذلك لا بد من التغيير بأسس جديدة وضوابط جديدة، وآن الأوان للرجوع إلى صوت الحق والتنازل عن الكثير الذى يعرقل مسيرة تقدم البلاد. وختاماً البلاد تحتاج لحكومة جديدة عناصرها غير العناصر المعروفة الآن، فكرها يحمل سمات التغيير بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وأن نبعد الذين يطبلون ويزينون الباطل ويرفعون التقارير الكاذبة التى عملت على خداع المسؤولين. والحقيقة واضحة أننا نريد التغيير لأن البلاد بهذه الصورة سوف تضيع بسبب المشكلات المفتعلة والمصنوعة، ونحتاج لحزب واسع عريض يسع كل الناس، ولنعلم الآن أن الجميع حكموا البلاد، يعنى كل الاحزاب خاضت التجربة بلا استثناء، ولكل تجربته، وللمواطن كلمته. وبضمير حي سوداني أصيل نلاحظ أن كل أحزابنا أدمنت الفشل وقيدت فكرها بعدم الخروج من هذه الدائرة. والله المستعان.