التأم في نيروبي عاصمة كينيا يوم الخميس 28 يوليو 2011م،الاجتماع التاسع عشر العادي لوزراء المياه لدول حوض النيل. وقد حضر الاجتماع وزراء المياه لكلٍ من كينيا ويوغندا وتنزانيا وبوروندي ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا ومصر والسودان. مما يجدر ذكره أن دولة إريتريا مازالت تحتفظ بصفة مراقب ولم تنضم إلى مبادرة حوض النيل عضواً كاملاً. وقد حضرت الاجتماع مراقباً جمهورية السودان الجنوبي أيضاً. انعقد الاجتماع في نيروبي لأن رئاسة المجلس الوزاري قد انتقلت إلى كينيا هذا الشهر ولمدة عام تنتهي في يوليو عام 2012م، ورئاسة المجلس الوزاري تنتقل كل عام حسب ترتيب الحروف الأبجدية باللغة الإنجليزية. وعليه فقد سلَّم الوزير الإثيوبي للمياه السيد ألمايو تيقونو مهام رئاسة المجلس الوزاري للسيدة شاريتي إنجيلو وزيرة الري والمياه الكينية. وسوف تنتقل رئاسة المجلس الوزاري إلى دولة رواندا عام 2012م ثم السودان عام 2013م. وانعقد الاجتماع هذا العام تحت شعار «حوض النيل ضرورة التعاون». وقد افتتح الاجتماع السيد أوهورو كينياتا نائب رئيس الوزراء ووزير المالية الكيني الذي هنأ الوزراء على إنجازات مبادرة حوض النيل، وأكد على ضرورة التعاون بين دول الحوض، وهو نفس الوتر الذي عزف عليه جميع الوزراء خلال هذا الاجتماع. وقد أقرَّ الاجتماع موازنة وبرنامج عمل سكرتارية مبادرة حوض النيل لعام 2011 - 2012م، كما أقرّ تقارير المكاتب واللجان المختلفة التي تعمل تحت مظلة المبادرة. وقد أحاطت بالاجتماع وطغت عليه ثلاث قضايا وعوامل رئيسية لا بد من التطرق إلى كلٍ منها على حدة. «2» كانت أولى تلك القضايا هي مسألة اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. فقد ظلت الاتفاقية محل خلاف منذ بدء المفاوضات حولها في بداية هذا القرن. فمصر والسودان تصران على أن استعمالاتهما وحقوقهما القائمة غير قابلة للتفاوض وتطالبان بتضمينها في اتفاقية الإطار التعاوني، بينما تصر الدول النيلية الأخرى على أن لها حقوقاً في نهر النيل وعلى ضرورة اتباع مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول لكل دول الحوض، وترفض هذه الدول تضمين الاتفاقية الإطارية أية إشارة إلى الحقوق والاستعمالات المصرية والسودانية. ويعتمد الموقف المصري والسوداني على اتفاقيات عُقِدت في القرن الماضي، وهي الاتفاقيات التي ترفضها هذه الدول. ويتضح من هذا أن نقطة الخلاف هذه بين الطرفين كبيرة وجوهرية. لقد إنهار اجتماع كنشاسا في مايو عام 2009م، ولم تنجح المفاوضات المكثّفة التي تمت خلال الاثني عشر شهراً اللاحقة ولا اجتماعا الإسكندرية وشرم الشيخ في حلحلة هذا الخلاف أو حتى تضييق الهوة بين الأطراف. وقد أصرت مصر والسودان من جهة، والدول النيلية الأخرى كلٌّ على موقفها. وبعد انهيار المفاوضات قامت إثيوبيا وتنزانيا ويوغندا ورواندا في 14 مايو عام 2010 بالتوقيع على الاتفاقية، ولحقت بها كينيا في 20 مايو عام 2010م ليرتفع عدد الدول المُوقِعة عليها إلى خمس دول. ولم تُوقع بوروندي والكنغو على الاتفاقية كما كان متوقعاً في ذلك الوقت. وبما أنّ الاتفاقية تحتاج إلى تصديق ستّ دول فقد اتضح جليّاً وقتها محدودية إمكانيات الدول الخمس هذه في تحريك الاتفاقية وإدخالها حيّز التنفيذ. وقد ظلّ الوضع مُعلّقاً هكذا حتّى شهر فبرائر عام 2011م. وفجأةً وبلا مقدمات قامت دولة بوروندي في الثامن والعشرين من فبرائر عام 2011م بالتوقيع على إتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. وفي تقديري فإن السبب الرئيسي الذي دفع بوروندي إلى التوقيع في ذلك التاريخ هو إعلان نتيجة استفتاء جنوب السودان التي أوضحت بجلاء اختيار شعب جنوب السودان للانفصال بنسبةٍ قاربت ال 99%، مما يعني ميلاد الدولة الحادية عشرة لنهر النيل التي يُتوقع أن تنحاز بسبب العوامل الإثنية والجغرافيّة والتاريخية إلى دول البحيرات الاستوائية. عليه فقد كان توقيع دولة بوروندي على اتفاقية الإطار التعاوني عملاً استباقياً، غير أنه جعل إمكانية دخول الاتفاقية حيز التنفيذ مسألة وقت. وقد يكون السبب الآخر هو إحساس دولة بوروندي أن مصر مشغولةٌ بثورتها ولن تعير اهتماماً كبيراً لهذا التوقيع. وقد طالبت مصر والسودان خلال اجتماع نيروبي يوم الخميس الماضي بعقد اجتماعٍ استثنائي للمجلس الوزاري لدول حوض النيل لمناقشة اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، وهو نفس الطلب الذي كانت قد تقدمت به الدولتان في العام الماضي خلال اجتماعات أديس أبابا. غير أن اجتماع نيروبي رفض مسألة فتح باب النقاش في الاتفاقية وقرر كحلٍ وسط مناقشة التداعيات القانونية والمؤسسية للاتفاقية في اجتماعٍ استثنائي يعقد في أكتوبر القادم في مدينة كيغالي عاصمة رواندا. «3» العامل الثاني الذي أحاط بالاجتماع هو بروز السودان الجنوبي كدولةٍ مستقلة في التاسع من يوليو عام 2011م، وقد حضر اجتماع نيروبي مندوبٌ من الدولة الجديدة بوصفه مراقباً في مبادرة حوض النيل. وقد تقدمت جمهورية السودان الجنوبي خلال هذا الاجتماع بطلبٍ رسميٍ للانضمام عضواً كاملاً في المبادرة. ويُتَوقّع أن تتم الموافقة على هذا الطلب خلال الاجتماع الاستثنائي الذي سيُعقد في أكتوبر القادم في مدينة كيغالي. يقع حوالي 20% من حوض النيل في جمهورية السودان الجنوبي، وهي الدولة الثانية مساحةً في الحوض بعد جمهورية السودان التي يقع فيها حوالى 45% من الحوض. كما أن حوالي 90% من السودان الجنوبي يقع داخل حوض النيل. وتقع المدن الرئيسية الثلاث في السودان الجنوبيجوبا وملكال وواو على النيل الأبيض أو أحد روافده. وتلتقي معظم روافد النيل الأبيض فى دولة السودان الجنوبي، وهناك أيضاً يلتقي النيل الأبيض الذي تأتي معظم مياهه من البحيرات الاستوائية بنهر السوباط الذي يأتي من الهضبة الإثيوبية. تجدر الإشارة إلى أن قدراً كبيراً من المياه يُقدّر بحوالي 40 إلى 50 مليار متر مكعب يتبخر ويتسرب في مستنقعات السودان الجنوبي. وتشير الدراسات إلى إمكانية إضافة حوالي 20 مليار متر مكعب إلى النيل الأبيض من هذه المستنقعات من خلال القنوات المقترحة التي تشمل قناة جونقلي. عليه فإنه يمكن تصنيف دولة السودان الجنوبي دولةً نيلية ذات اهتمامات ودور كبيرين في نهر النيل، أُسوةً بمصر والسودان وإثيوبيا. ويُتوقع أن يلعب السودان الجنوبي دوراً كبيراً «إن قُدِّر له الاستقرار السياسي والأمني» في مجريات الأمور في نهر النيل بما في ذلك مسألة اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. ويتوقع المراقبون في هذا المجال أن تقوم جمهورية السودان الجنوبي بالانضمام للاتفاقية، وذلك بسبب العلاقات الإثنية والجغرافيّة والتاريخية والثقافية والاقتصادية الوطيدة التي تربطها بدول البحيرات الاستوائية، والوقوف مع هذه الدول في نزاعاتها النيلية مع مصر والسودان. «4» العامل الثالث الذي لا بد أن يكون قد طغى على اجتماع نيروبي هو التطورات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية التي تمر بها دول حوض النيل. فإنقسام السودان إلى دولتين سيؤدي بالضرورة إلى ضعفٍ إقتصاديٍ وسياسيٍ للسودان. كما أن بروز دولة السودان الجنوبي سيؤدي إلى تقوية دول المنبع وتعزيز إمكانياتها التفاوضية. كما أنه لا بد أن يكون قد وضح لقادة الثورة المصرية أن الاعتماد على الغرب لتأييد مصر، أو على الأقل الوقوف في جانب الحياد تجاه الصراع الدائر في حوض النيل لم يعد شيئاً يمكن الوثوق به، وأن سياسة العصا الغليظة التي انتهجها نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك ومن قبله الرئيس أنور السادات تجاه دول حوض النيل لم تعُدْ عملةً صالحةً للتداول وأن زمانها قد ولى. ومن الناحية الأخرى فإن بروز إثيوبيا قوةً إقليمية لم يعد خافياً للعيان. فقد فاق عدد سكانها لأول مرةٍ في التاريخ عدد سكان مصر «88 مليون إثيوبي و84 مليون مصري»، وسجل اقتصادها ارتفاعاً كبيراً على مدى السنوات الخمس الماضية مما وضعها في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث النمو خلال العام الماضي. وقد انعكس ذلك بدوره على برامج السدود في إثيوبيا فأكملت في عام 2010م سد تكِزي على نهر عطبرة والذي يبلغ ارتفاعه قرابة المائتي متر، ويُخزّن حوالي 4 مليارات متر مكعب من المياه، ويولّد حوالي 300 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. كما أكملت إثيوبيا أيضاً عام 2010م سد تانا بيليس الذي يقوم بتحويل المياه من بحيرة تانا إلى نهر بيليس ويولّد حوالي 500 ميقاواط من الكهرباء. كما بنت وتبني إثيوبيا مجموعة من السدود الضخمة على عدّة أنهار خارج منظومة نهر النيل. ولكن المفاجأة الكبرى كانت إعلان إثيوبيا في شهر مارس من هذا العام البدء في تنفيذ سد الألفية العظيم على النيل الأزرق، على بعد حوالي 40 كيلومتراً من الحدود مع السودان، لتوليد حوالي 5250 ميقاواط من الكهرباء. وإذا قُدّر لهذا السد أن يتم فسيكون أكبر سدٍّ في أفريقيا والعاشر في العالم. وقد كان رد الفعل المصري والسوداني الرفض التام لهذا السد باعتبار أنه سيضر بمصالحهما المائية، وطلبا من إثيوبيا إمدادهما بكل الدراسات والمعلومات المتعلقة به. «5» لا بد أن المتغييرات في منطقة حوض النيل قد اتضحت لقادة الثورة في مصر. فقد قام السيد عصام شرف رئيس الوزراء المصري بزيارة إثيوبيا في مايو الماضي التقى خلالها لساعاتٍ طويلة برئيس الوزراء الإثيوبي السيد ميليس زيناوي، وناقش معه قضايا النيل الشائكة، واتفقا على تأجيل العمل في التصديق على اتفاقية الإطار التعاوني لإعطاء مصر بعض الوقت لدراسة المسألة. وبرز خلال هذه الزيارة لأول مرة الحديث عن التعاون وتبادل المنافع حول مياه النيل. وكان نظام مبارك رافضاً لهذه الندّية، ولم يرسل خلال عهده أكثر من وزير دولة لمناقشة أيٍ من هذه القضايا. ومن الجانب الآخر فقد أعلن السودان في 20 يونيو عام 2011 على لسان سفيره في إثيوبيا السيد محيي الدين سالم عن دعم السودان لتشييد سد الألفية العظيم. ويبدو أن السودان قد اقتنع بأن المنافع التي ستعود عليه من السد «حجز الطمي، تنظيم انسياب مياه النيل الأزرق على مدى العام ووقف الفيضانات، قلّة التبخر وإمكانية الاستفادة من الطاقة المُولّدة ومن المياه للري» كبيرة. وتبقى مسألة الوقت الذي تخطّط له إثيوبيا لملء بحيرة السد الضخمة «والتي تبلغ سعتها 62 مليار متر مكعب من المياه وهي ضعف سعة بحيرة تانا وحوالي نصف بحيرة ناصر»، ولكن هذه مسألة يمكن التفاوض عليها والتعاون حولها. وهكذا برز أول شرخٍ في مواقف مصر والسودان التي تطابقت تماماً في كل مسائل النيل في الماضي. «6» يتضح من العرض أعلاه أن تغييراتٍ سياسية واقتصادية كبيرةٍ وجسيمة تكتنف حوض النيل ودوله. ويتضح أيضاً أن حلحلة الخلافات حول مياه النيل لن تتم إلاّ بالتعاون التام وبحسن نية بين جميع دول حوض النيل. وكما ذكرنا في مقالاتٍ سابقة فإن المشكلة الكبرى التي تواجه دول حوض النيل هي الإيراد الضعيف لنهر النيل «إن مجمل مياه النيل تساوي 2% من نهر الأمزون، 6% من نهر الكونغو، 12% من نهر اليانغستي، 17% من نهر النيجر، و26% من نهر الزمبيزي». إنّ هذا الضعف الحاد في وارد المياه السنوي يمثّل المشكلة الكبرى لنهر النيل ودوله وشعوبه خصوصاً مع الزيادة المضطردة للسكان «300 مليون نسمة الآن، و500 مليون عام 2025م» ومع الاحتياجات المائية المتنامية لهم، ومع التغييرات المناخية والتدهور البيئي في دول الحوض. إن التحدي الحقيقي الذي سيواجه الاجتماع الاستثنائي لوزراء دول حوض النيل المزمع عقده في كيغالي في أكتوبر القادم سيكون ترجمة شعار التعاون الذي ظلّ مرفوعاً لأكثر من عقدٍ من الزمان إلى واقعٍ عمليٍ ملموس من خلال حلحلة الخلافات حول اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل وإدخالها حيّز التنفيذ، وإنشاء مفوضيةٍ لحوض النيل تكون شاملةً لكل دول الحوض، والبدء في برامج عملٍ تنمويٍ جاد ومتكامل مبنيٍ على الاستفادة القصوى من إمكانيات حوض النيل الكبيرة لمواجهة الفقر والتخلف الذي يواجه شعوب الحوض. [email protected]