يغنيك عن محموده النسبا إن الفتى من يقول هأنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي ربما هذان البيتان اللذان ينسبان للحجاج بن يوسف، هما ما جعلانى أُمسك عن ذكر أبى الراحل حسن عوض الله طوال سنوات كتابتي الراتبة، فنحن معشر السودانيين نستعصم دوماً بالتواضع و«المسكنة»، ونمقت ونفزع من شبهة التعالي وتزكية النفس. وما جعلني أحيد عن هذه الخصلة الحميدة اليوم وأعتقد اننى لن أكررها ذاك الحديث المؤثر الذي استمعت له بالصدفة من راديو ام درمان في أمسية رمضانية مباركة من هذا الشهر الكريم، وكان المتحدث الأخ الكريم الفريق الفاتح الجيلى، وهو أحد القيادات السابقة والمرموقة فى أجهزة الأمن والشرطة، والذي رغم ما كان يتطلبه عمله من انضباط وصرامة مهنية، إلا أنه ظل يتحلى بأخلاق «أولاد الناس»، وهذا ما شهد به خصوم النظام المايوي في تلك الفترة التى إنطوت. ذكر الأخ الفاتح في ما ذكر وهو يجتر فترة عمله مديراً لمكتب حسن عوض الله فى حقبة الستينيات «وكان برتبة الملاحظ وقتها والتي ربما تعادل رتبة الرائد الآن»، بينما كان الوالد يشغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ذكر وتطرق فى حديثه الإذاعي لقصة «المشروع الزراعي». والقصة باختصار أن حسن عوض الله كان يعانى شأنه شأن رفاقه من رموز الحركة الوطنية من رقة الحال وضيق اليد خلال عهد عبود، بسبب مقاطعتهم للنظام الذي غيّب الحريات ووأد الديمقراطية، فكتب خطاباً كأي مواطن عادى إلى مدير الزراعة الآلية يطلب التصديق له بمشروع زراعي في أصقاع السودان يتعيش منه، ولم يشر فيه إلى أنه كان وزيراً للزراعة في أول حكومة وطنية.. حكومة الاستقلال برئاسة الرئيس إسماعيل الأزهري، ولم يعبأ أحد بذلك الطلب، ثم جاءت ثورة أكتوبر فأصبح بعدها وزيراً للتربية والتعليم ثم نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية.. وعندها وبعد أن أصبح وزيراً جاءه خطاب من الزراعة الآلية يفيد بتخصيص مشروع مميز ل «سيادته» رداً على طلبه القديم . ولم يتردد وأملى في ذات اللحظة خطاباً مقتضباً على مدير مكتبه الأخ الفاتح الجيلي نصه كالآتي: «السيد مدير الزراعة الآلية .. تحية واحتراماً .. عندما كتبت الطلب الذي أشرتم إليه كنت بلا عمل، وأنا الآن أشغل منصب وزير الداخلية، وبالتالي لا أستطيع قبول المشروع الزراعي الذي خصصتموه لي. أرجو التكرم بمنحه لمن يستحقه حسب النظم واللوائح.. مع وافر الاحترام.. حسن عوض الله نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية». وعندما جاءت مايو قُدم حسن عوض الله مع ثلة من رموز الحزب الاتحادى إلى محكمة عُرفت ب «محكمة الشعب» بتهم الفساد واستباحة المال العام، ورأس تلك المحاكم بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة المايوي، وبعد أن قلّبت لجان التحقيق في كل ورقة وفتشت تحت كل حجر حكمت المحكمة ببراءة المتهم حسن عوض الله، فى حين حكمت ظلماً وجوراً على أشرف وأطهر الرجال بسنوات سجن طوال وهم الأعمام أحمد السيد حمد وعبد الماجد أبو حسبو وأحمد زين العابدين عمر... رحمهم الله جميعاً. ورغم تلك البراءة ظل والدي في السجن، ثم انتقل إلى الإقامة الجبرية فى المنزل المتواضع الذى ورثه من أبيه، هو وأشقاؤه وشقيقاته بحي البوستة بأم درمان، وظلت لجان التحقيق حول الفساد المزعوم تواصل عملها. وذات صباح جاءنا بالبيت وفد يضم مستشاراً بالنائب العام ومعه ضابط شرطة، ونقلا لوالدى ما انتهت إليه تلك اللجنة، حيث وجدت اللجنة والدي مقارفاً لتهمة اختلاس مبلغ عشرين جنيهاً من خزينة الدولة هي قيمة تذكرة حفل السيدة أم كلثوم عند زيارتها للخرطوم، وكان عمنا عبد الماجد ابو حسبو وزير الإعلام يومها قد بعث له بتلك التذكرة، وحالت ظروف عمله دون حضور ذاك الحفل. ونقلت اللجنة المؤقرة لوالدي «المتهم» قرارها، إما بسداد المبلغ خلال يومين أو مثوله أمام المحكمة من جديد وانصرفت . كان والدي - والذي كان قبل بضعة أشهر نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً - لا يملك جنيهاً واحداً، بل لا يملك ولم يملك عربة أو حتى منزلاً، فبعثنى وأنا صبى يافع يومها إلى العم محمد أحمد عباس «رحمه الله» واستدان منه المبلغ، ثم كلفنى في اليوم التالي بأن أذهب ب «شورت المدرسة وزيها» إلى مكاتب النائب العام لأقوم بسداد المبلغ مع تشديده لي بضرورة المطالبة بايصال المبلغ. توفى حسن عوض الله بمنزل مستأجر في عام 1983م، ورحل عن هذه الدنيا وهو لا يملك منها إلا قبراً متواضعاً وسط قبور الشرفاء البسطاء الذين أحبهم، وقد استغرب زميلنا المحرر الصحفي بصحيفة «حكايات» وهو يشرف على تحرير مادة صحفية تتناول بالصورة قبور من رحلوا من مشاهير العمل العام.. استغرب قولي له بأنني لا أعرف بالتحديد مكان قبر أبى، فقد أوصى بألا يوضع حتى «شاهد» على قبره وهو يقول: «نحن لم نتمايز على الناس فى حياتنا، فلماذا تتمايز قبورنا على قبورهم بعد الموت؟».