ليس هناك ما يفيد بتحسن في الوضع الاقتصادي والسياسي العام، بل يشير واقع الحال إلى أننا إزاء أزمة اقتصادية طاحنة يزيدها ضراوة وضع سياسي غير مستقر، وتنعدم فيها آفاق التسوية لصراعات تمتد من دارفور إلى النيل الأزرق مروراً بجنوب كردفان، مع جدل عقيم في محاولات التقارب بين الحزب الحاكم وبقية الأحزاب، وتراجع عائدات البلاد بعد غياب النفط، ووقف صادرات الماشية في موسم حرج هو موسم الهدي، وفي وقت لم تظهر فيه معالجات جادة لسوء الإدارة والفساد والجبايات الفوضوية التي تتم أحيانا دون أوراق رسمية، مع وجود أناس نافذين وشركات تُحظى بامتيازات وتخترق حواجز الجمارك والضرائب وتخل بالأداء الطبيعي للسوق تاركة تشوهات تصيب المواطن في مقتل. ويرى الكثيرون أن الحجم الكبير في صادر الماشية من بين الأسباب التي أدت إلى ارتفاع أسعار اللحوم، وهناك القناعة السائدة والمؤكدة بأن الرسوم العالية والاتاوات والجبايات إلى جانب ممارسات عديدة فاسدة هي صاحبة الإسهام الأكبر في ما يحدث من فوضى. ويبدو أن الحراب تخطئ هدفها وتصيب الظل في كل مرة، لأن الناس لم يتفقوا على الفيل الهدف.. هل هو الحكومة بجباياتها وبما تحتضنه من فساد ينتشر في كل مكان، أم هم التجار، أم التهريب، وهذا الأخير ناجم عن سياسيات حكومية حسبما قالت اللجنة الفرعية للثروة الحيوانية بالمجلس الوطني، مشيرة إلى أن تلك السياسيات أدت إلى خلل وإهمال وتسببت في تهريب «50» بالمائة من الثروة الحيوانية إلى خارج البلاد. ويقول صديق حيدوب رئيس شعبة مصدري الماشية إن السوق دخلته عناصر جديدة غير مرخص لها، وأنها تشتري بأي سعر، وأن عملياتها تدل على شبهة غسيل الأموال، ويقول عاملون في مجال بيع اللحوم إنه بينما يشتري الجزار الخروف بحوالى «200» جنيه من المنتج، فإن مصدرين يمكنهم دفع «500» جنيه للرأس، وهمهم الأساسي تبييض الأموال التي بحوزتهم، ما يشير إلى وجود ممارسات فاسدة وراء توزيع تراخيص التصدير. وتمثل أزمة اللحوم فقط قمة جبل الجليد، فقد طالت فوضى الأسعار كل المواد الاستهلاكية، وعكست أزمة اقتصادية طاحنة تضرب البلاد، حيث يتضاءل المكون الأساسي من العملات الصعبة العائدة من تصدير اللحوم، بعد أن رفضت السلطات السعودية استقبال الماشية من السودان بسبب غلاء الأسعار، وتقدر الكميات المصدرة عادةً في موسم الهدي بأكثر من نصف مليون رأس، ويضاف إلى كل ذلك الارتفاع الجنوني في أسعار الدولار التي تجاوزت أواخر الأسبوع المنصرم الأربعة جنيهات في السوق الموازي، وهكذا تتردى الحالة الاقتصادية نحو هاوية سحيقة لا يعرف لها قرار. ومن صور هذه الأزمة التحذير بتوقف المصانع العَاملة بسبب الرسوم والضرائب المفروضة على القطاع، حيث كشف الأمين العام لاتحاد الغرف الصناعية عباس علي السيد، عن دخول بعض مصانع الأسمنت إلى مرحلة التعسر بعد ارتفاع أسعار الفيرنس. ودعا إلى ضرورة إعادة النظر في الضريبة وعمل إصلاح ضريبي وحل مشكلة التمويل، وقال إنّ البنك الذي خصص لتمويل الصناعة لم يكتمل رأسماله حتى الآن. وتتواصل فوضى السوق والأسعار على خلفية سياسية مضطربة يبرز فيها بصفة خاصة انعدام آفاق التسوية للنزاعات المسلحة، وفيها مناطق رئيسية للانتاج، كما يخيم على الساحة عدم التوافق بين الكيانات السياسية، وفشل المؤتمر الوطني في اجتذاب الآخرين إلى صيغة توافقية لترتيب شؤون الحكم ووضع دستور دائم للبلاد، حيث يتطلع الحزب الحاكم إلى العمل مع كيانات سياسية هشة تنفذ سياساته وتكون تابعة له. وبالنسبة للحلول فإن هناك جزئيات متناثرة للخروج من الأزمة، ووعود عرفها الناس من قبل خاصة في ما يتعلق بالجبايات والرسوم ضمن قرارات لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وقدم والي الخرطوم خريطة طريق للخروج من الأزمة تصلح لولايته، وقد تشكل مخرجاً مؤقتاً لكنها لا تنفذ إلى صلب الأزمة القائمة، وقد أثار الكثير من الغضب عندما دعا غير القادرين على التعايش مع صعوبة الأوضاع في العاصمة إلى العودة إلى الأقاليم، حيث أن تدني مستوى الخدمات من صحية وتعليمية وغيرها هناك هو الذي جعل العاصمة تكتظ بكل هؤلاء الناس. وكانت الحلول قد شملت استيراد أبقار من إثيوبيا أرخص سعراً لكنها بيعت في أسواقنا بنفس هذه الأسعار المهولة، ما يعنى أن الأزمة مستفحلة داخلياً ولن يجدى معها الاستيراد والحلول المستوردة، فهي تكمن في صلب نظامنا الاداري والرقابي المتهالك والمتعاطف مع المنتفعين من فوضى الأسعار. وفي قائمة الحلول الخيالية هناك وعود مسكنة أكثر منها واقعية من نوع أن الانتاج من الذهب سيعوض الفاقد من أموال النفط، وقال مسؤولون أيضا إن تحويلات المغتربين يمكن أن تشكل بديلا، ويعرف هؤلاء المسؤولون وغيرهم أن كميات كبيرة من الذهب المستخرج تجد طريقها الى التهريب مثلها مثل الماشية، وحتى الصمغ العربي حيث أصبحت دول تتلقى الصمغ المهرب تسبق السودان في قائمة المنتجين والمصدرين له، بينما يحجم المغتربون عن تحويل أموالهم عبر القنوات الرسمية، لأن ذلك لن يفيد أسرهم التي تكابد نيران سوق يعمل وفقاً لأسعار الدولار في السوق الموازي. وبشكل عام فإن الأزمة الاقتصادية هي نتاج لحالة الاضطراب في مجمل الساحة السودانية، وتبدو الحاجة ملحة إلى آليات لزيادة الانتاج، وإلى حلول قومية تشرك جميع الكيانات السياسية في أمر الحكم والدستور، وتهدئة الجبهات المشتعلة من أجل اجتذاب الجميع إلى دائرة الحل وإسكات أصوات الإقصاء، والعمل بجد من أجل وقف الحرب بما يتوفر من مبادرات داخلية وخارجية، وإلا فإننا نتردى إلى ذات الحالة الصومالية في أقسى وأبشع صورها.