تحولت ساحات الجامعات اخيراً، وبدلا من تلقي العلم ومناقشة والقضايا الفكرية والجوانب الاكاديمية وعكسها على المجتمع، الى اماكن لعرض موضات الازياء بحسب الطلاب انفسهم، وتحولت المكتبات الى متاحف اثرية بعد ان هجرها الطلاب قصداً، واصبحت مقيدة بالنسبة لهم، وانصرف الطلاب عن غرضهم الاساسي واصبحوا يلهثون في مجاراة كل جديد، في طريقة لبسهم، وسماعهم للاغاني عبر «سماعات الاذن» لتصبح ثقافة الاجيال الحالية، بحسب اكاديميين ثقافة ضحلة، الأمر الذي انعكس سلباً على المخرجات الأكاديمية التي التحقوا من أجلها بالجامعات. وفيما مضي كان الشارع ينظر الى الطالب الجامعي بتقدير كبير، وذلك لاسباب عديدة، ابرزها ان دخول الجامعات كان غير متاح لغير المتفوقين اكاديميا من مختلف انحاء السودان، عطفا على ان الطالب الجامعي كان يمثل في سلوكه المنضبط قدوة للصغار ومثالا يحتذون به ويتطلعون للوصول الى مكانته التي كانت مرموقة ومحل اجماع، وبالاضافة الى ذلك كان للأدوار الاجتماعية والسياسية التي يضطلع بها الطالب الجامعي أثر كبير يصب في مصلحة المجتمع على الاصعدة كافة. من داخل كلية الهندسة بجامعة النيلين وتحديدا كافتريا الكلية التى تقع على الجهة الشمالية من المبنى، وتطل عليها ادارة الكلية.. وجدنا مجموعة كبيرة من الطلاب يجلسون حول طاولاتها، حتى تكاد تجزم بأنه لا يوجد طالب فى القاعة، وعندما أمعنا النظر داخل الكافتريا لاحظنا انهم طلاب لا تتجاوز اعمارهم واحداً وعشرين عاماً، وحول كل طاولة مجموعة من الطلاب والطالبات، يبدو ان جلوسهم جاء نتيجة لتوافق وتجانس المجموعة مع بعضها. والشيء الذى لم يكن فى الحسبان أن من بين تلك المجموعات طلاب يلعبون «الكشتينة والليدو والشطرنج»، وآخرون يس?عون الاغانى ويشاهدون الافلام باجهزة «اللابتوب»، هذا ما شهدناه بام اعيننا، وبحسب الطلاب فإن ما خفي أعظم. الطالب محمد حمد، وجدناه يجلس مع أحد اصدقائه الذى جاء الى زيارته بالكافتريا، ويدرس الطب بجامعة امدرمان الاسلامية، وبعد تبادل الحديث معهما التفت حمد الى صديقه والقى عليه نظرة توحى برسالة ترجم فيها ما يريده من صديقه، ثم بعد ذلك تحدث بنبرة ملؤها الحسرة والحزن، على الرغم من صغر سنه لما وصل اليه المجتمع الجامعى من عدم انضباط وتركيز فى المحاضرات، وبات هم الطالب الجلوس بالكافتريا لممارسة هواياته التى باتت متاحة داخل الحرم الجامعى، وقال حمد إنه جاء الى الجامعة بكل حيوية ونشاط، لكنه فوجئ باشياء لم يكن يتوقع حدوثها د?خل الحرم الجامعى. وأبان أنه كان يتوقع ان يجد مجتمع الجامعة لا يختلف كثيرا عن المدرسة، وأن يجد الاكاديميات والدراسة التي جاء من اجلها الطالب، لكنه أصيب بإحباط عندما اصطدم بواقع لا يشابه ما كان يرسمه للجامعة في خياله، وقال ان الطلاب شرائح متعددة، فمنهم المجتهد المواظب على حضور المحاضرة، لكنها للأسف فئة قليلة جدا لا تتجاوز ال 30%. وحتى اذا دخلت مجموعة كبيرة من الطلاب القاعة فإن هذا ليس من اهتمامهم، فالأمر الذى دفعهم للحضور أن مجموعة من الاساتذه تحرص على تسجيل اسماء الطلاب، لأن الحضور يقيَّم به الطالب نهاية ا?عام ويأخذ عليه درجات. ومن جانبه قال الطالب هيثم إن للطلاب تقييماً خاصاً لمواد الجامعة، ويعطون الاولوية للمواد الاساسية فقط، ويحرصون على حضور المحاضرة، اما بقية المواد فليس لها نصيب من الاهتمام، ويعتمدون على المذكرة «الشيت» الذى يجمعونه نهاية العام. وتساءل هيثم من اين جاء الطلاب بهذا التقييم؟ مبدياً أسفه على الطلاب الذين يقضون معظم وقتهم بالكافتريا، مؤكدا ان الاغلبية لا علاقه لهم بالقاعات، والذى ازعجه اكثر عدم احترام الطلاب للمنارة التى اسست لنهل العلم، واعاب على زملائه شرب السجائر وتعاطي التمباك فى حضرة الاساتذة وداخل القاعات? فيما قالت الطالبة هيفاء إن اغلبية الطلاب لا علاقة لهم بالاكاديميات. وقالت انهم هجروا المكتبة التي تحولت الى متحف، اما حضور المحاضرات فيكون بنسبة حضور لا تتجاوز 40% من الدفعة، وحتى اذا دخلت هذه المجموعة القاعة فإنهم مضطرون، والأغلبية يجلسون على المقاعد الخلفية ويضعون «سماعات الاذن» ويشاهدون الافلام باجهزة «اللابتوب»، وبعض منهم يصدرون اصواتاً مزعجة من الموبايلات لاستفزاز الاستاذ حتى يدفعونه الى انهاء المحاضرة دون مواعيدها. وقال هيثم إن كثيراً من الطلاب عندما جاءوا الى الجامعة كانوا فى البداية يحرصون على الم?اضرات، لكن للاسف بعد اختلاطهم ببعض الطلاب حدث لهم تغيير سلبى، ونسوا الذى جاءوا من اجله. وقالت الطالبة سلمى إن ما اصاب الطلاب من تدنٍ في المستوى الاكاديمى يرجع الى بعض اساتذة الجامعات، وابانت ان اغلبية الاساتذة يعدون مذكرات للطلاب نهاية العام، الامر الذى دفعهم الى هجر المكتبة والبحث وراء المعلومات التى تزودهم بالمعرفة، مؤكدة ان غالبية الطلاب بكلية الهندسة لا علاقة لهم بقاعات المحاضرات، ويقضون معظم وقتهم في أماكن الشيشة قرب الكلية، ثم باقى اليوم بالكافتريا وشارع الاحصاء، ويلعبون الكتشينة حتى السادسة مساءً، وفى نهاية العام الدراسى يجمعون المذكرات ويوزعون كل جزء من المذكرة على طالب، وعند الجلوس ?لمادة كل منهم يكتب الجزء الذى كلف به، وبهذا تتم الاجابة على جميع الاسئله المطلوبة. وقال الخريج محمد حاتم إن السبب في تدنى المستوى الأكاديمي لطلاب الجامعات، هو أن مستوى الطالب الذي جاء به من المراحل السابقة كان مستوى ضحلاً لا يؤهله لمواكبة العلوم الجامعية، كما أن المعينات في البيئة الجامعية من الكتاب و المرجع والأستاذ المؤهل ليست جيدة، كما أن أسلوب التعليم في الجامعات السودانية لا يقوم على تنمية وإذكاء الملكات العليا، ويغلب عليه التلقين، وأخيراً فإن اختلاط الطلاب بالطالبات يساهم بصورة كبيرة في تدني التحصيل، اضافة الى انصراف الطلاب عن القراءة ودخول المكتبات، وعدم وجود الأستاذ الذي يدفع الط?اب ويشجعهم على القراءة والاطلاع، وانصراف الطلاب عن العلم راجع للانشغال بالمظاهر الزائفة من موبايلات وملابس فاخرة. وأشار أكاديميون إلى أنه منذ تطبيق سياسة التعليم العالي التي ركزت على الكم وليس الكيف، بدأت مكانة الطالب الجامعي في التراجع عما كانت عليه في الماضي، مرجعين التغيير الكبير الذي طرأ على سلوكيات الطالب الجامعي الى اسباب عديدة، ابرزها ضعف الثقافة والآثار السالبة للعولمة، وعدم اكتمال نضوج الكثير منهم فكريا في المراحل الاولية التي تشكل شخصية الطالب، وأشاروا الى ان اهتمام عدد كبير من طلاب الجامعات بات سطحيا وانصرافيا ولا يليق بمكانة من يدخره الوطن لقادمات الايام لحمل الراية، وظلت سلوكيات طلاب الجامعات محل جدل وت?اول كبيرين في الاوساط المختلفة، مشيرين الى ان زيارة واحدة لإحدى الجامعات توضح عمق الأزمة التي تعيشها الاجيال الحالية، ومشاهد مثل رؤية قاعات المحاضرات خالية في وجود المحاضر الا من بعض الطلاب القلة، بات أمراً شائعاً، فالطلاب اصبحوا يفضلون الوجود بصالات البليارو والبنشات والكافتريات على قاعات المحاضرات التي من المفترض ان يوجدوا بها. وتحدث ل «الصحافة» هاتفيا الخبير التربوى حسين خليفة الحسن فقال إن من اسباب تدنى مستويات الطلاب بالجامعة عزوفهم عن مصاحبة الكتب العلمية والمراجع، ويعنى بذلك احجامهم عن الذهاب للمكتبة، مؤكدا ان المعرفة لن تكتمل الا بالاستزادة من مناهل ومصادر عدة، فالمراجع فى المكتبات هي الوسيلة الفريدة لتوسيع مدارك الطلاب وانعاش الذاكرة واثراء الذخيرة اللغوية والمعرفية للطالب، مبينا أن الحصيلة المعرفية عبارة عن مثلث ذى ثلاثة اضلاع «الطالب، الاستاذ والمرجع»، مناشدا ادارة الجامعة والاساتذة الاجلاء حث وتشجيع الطلاب لمرافقة المر?ع العلمى دائما، سواء أكان عبر المكتبة او المعمل، وذلك بعد انتهاء المحاضرة، وعلى الاستاذ الجامعى أن ينبه الطالب الى عدم الاعتماد على الملخص والرجوع الى المراجع لزيادة المعرفة، وان يدرك الطالب حقيقة ذلك. ونبه الطلاب إلى اهمية الاستئناس بالمراجع وبدونها لن يحقق الطلاب هدفهم، اضافة الى متابعة الاستاذ المحاضر عن كثب عند طرح محاضرته، والا ينشغل بأية اشياء اخرى والنظر الى مصلحته فقط. الاستاذ عثمان ابراهيم قال: إن المسائل الأكاديمية تتداخل مع المسائل النفسية والتربوية. وان من أهم أسباب هذا التدني فقدان سنتين من عمر الطالب في مرحلة الأساس. فضاعت سنة في دمج المرحلتين «المتوسطة والابتدائية» كما ضاعت سنة أخرى في تغيير سن القبول من سبع سنوات إلى ست سنوات، وبالتالي فالطالب يدخل الجامعة وفيه بقية من «لعب وشقاوة»، لذلك فأكثر ما نلاحظه التدني في السنتين الأولى والثانية من المرحلة الجامعية. بالإضافة لذلك هنالك ضعف في التنسيق بين المركز القومي للمناهج والجامعات، وليس هناك ربط يجعل الطالب يشعر بأنه?انتقل انتقالاً طبيعياً للمرحلة الجامعية، كما أن مكتباتنا مازالت تفتقر الى أمهات المراجع. وتنعدم المراجع باللغة العربية في ظل تعريب الجامعات. كما أن ضعف الطالب في اللغة الانجليزية يجعله لا يستفيد من المراجع الأجنبية. أضف إلى ذلك أن كثيراً من الأساتذة يحصر تقييمه للطالب في امتحان آخر السنة. والواجب أن يكون تقييمهم مستمراً عبر أعمال السنة والاختبارات والسمنارات والبحوث الصغيرة. وقال عثمان: يجب ألا ننسى أن المناهج الجامعية أيضاً تحتاج لإعادة نظر وتطوير. وعليه لا بد من تطوير المناهج في الجامعة ومعرفة رأي الطلاب في المنهج المدروس وأداء الأساتذة. ولا بد من وجود الأستاذ الدائم «الموجود في مكتبه»، إضافة إلى إيجاد مشرفين أكاديميين لمراقبة أداء الطلاب حتى الممتازين منهم.