يذكر مستمعو إذاعة هنا أم درمان الموسيقى الحارة المطربة التي تسبق برنامج ما يطلبه المستمعون أيام مجد الإذاعة، قبل أن تنافسها القنوات كما هو الحال الآن، ويذكرون أن الناس قد صنعوا على نغمتها حواراً يدور بين امرأة تخاطب جارتها نفيسة بأن سيد اللبن قد جاء وأنها مدينة إليه بقرشين ونصف: سيد اللبن جاء يا نفيسة طالبني قرشين وتعريفة وعندي لهذه المرأة ولجارتها نفيسة ولجميع من استمعوا لهذا اللحن الشجي خبراً سيئاً، وهو أن سيد اللبن هذا لن يجيء وربما للأبد! أخبرني «سيد اللبن» المداوم على «كب» اللبن عندنا أن هذه المهنة في طريقها للزوال، ذلك لأن شركة ضخمة من شركات تجفيف الالبان رأسمالها ضخم لا يُقاوم، قد بدأت تأتي إلى أماكن حلب الأبقار وتشتري كل الكمية المحلوبة من اللبن بسعر أعلى من السعر الذي يشتري به بائعو اللبن الذين يجولون به على الناس، وأنها مع السعر المرتفع للبن توفر على مربي الأبقار أي ترحيل له... لأنها تشتري كل المحلوب من اللبن وترحله بعرباتها، إذ كان أصحاب الأبقار في الماضي يبيعون للباعة المتجولين وما بقي يرحلونه إلى حيث يباع إما بالجملة أو القطاعي. وهذه الشركة تصنّع هذا اللبن في شكل عبوات سائلة وجافة ومن ثمّ تبيعه للبقالات ليصل من بعد ذلك للمستهلك. وقال لي محدثي إن مسؤولاً حكومياً نافذاً في المجال قال إنه قد آن للمواطنين في السودان أن يودعوا هذه الطريقة المتخلفة لبيع اللبن عن طريق الكارو الذي يجره الحمار، لأن هذا ليس معمولاً به كما زعم في أي قطر من أقطار العالم!! لكن ما يخشاه الناس هو أن يؤخذ اللبن وأن يعالج معالجات كيماوية، وأن تُدخل عليه مواد حافظة فيفقد مستهلك اللبن شيئين في وقت واحد: اللبن الطبيعي الطازج والسعر المنخفض المعقول. ويدخل إلى عالم البقالات، مما يجعله سلعة عزيزة المنال بالنسبة لمحدودي الدخل المصطلين أصلاً بنار الغلاء، ويحرمون من مادة أساسية هي مادة اللبن، كما أن أعداداً ضخمة من بائعي اللبن المتجولين سيفقدون عملهم ويتشردون. وبدت لي هذه الشركة كالاقطاعي الفظ غليظ القلب الذي يريد أن يربح غير مبالٍ بما يعانيه الأطفال والمساكين وكبار السن الذين يعتمدون في غذائهم على جرعة اللبن التي لم يكن الحصول عليها سهلاً، والشركة تريد أن تجعله مستحيلاً، ويشترك معها في إلحاق الأذى بالناس بعض المسؤولين في الدولة الذين يريدون إلحاقنا بالحضارة مع المخمصة والمسغبة والجوع الذي هو بئس الضجيع كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم. ثم إننا جميعاً سنفتقد «سيد اللبن» الذي كان يمثل جزءاً من برنامج الأسرة اليومي، فسيد اللبن الذي معي الآن تناول منذ أشهر فقط «كب» اللبن من ابن عمه الذي كان معنا منذ أن كان أبنائي الكبار في الروضة والآن يخرج له ابناء أبنائي الذين هم في الروضة الآن... وهكذا وليبك من شاء على سيد اللبن!!