رحل الأديب والفيلسوف والكاتب الصحافي الكبير وأستاذ الجيل أنيس منصور، بعد عطاء ثر في مجالات الأدب والفلسفة الوجودية والتأليف المسرحي، تاركاً بصماته الراسخة في بلاط صاحبة الجلالةو حيث تولى رئاسة تحرير العديد من المجلات منها: «الجيل، وآخر ساعة، وأكتوبر، والعروة الوثقى، ومايو، وكاريكاتير، والكاتب»، كما كان له العديد من المؤلفات لعل أشهرها كتابه في أدب الرحلات «حول العالم في 200 يوم»، بالإضافة إلى مقالاته اليومية فكان يكتب بجريدة «الأهرام» المصرية عاموده اليومي «مواقف»، وكذلك عاموده بالصفحة الأخيرة من جريدة «ال?رق الأوسط» اللندنية. تعرفت على كتابات أنيس منصور في أيام الصبا الباكر من خلال مقالاته في مجلة أكتوبر نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، وحينها كان عمي المربي الفاضل/ حسن آدم هدل يتحفني بإصدارات المجلات المصرية «آخر ساعة، والمصور، وروز اليوسف، وصباح الخير، وأكتوبر» والأخيرة كان عمي حسن يحتفظ بعددها الأول الصادر في 31 أكتوبر 1976م، بمكتبته الصغيرة، وكانت الصحف والمجلات العربية حينها تقوم مقام الفضائيات بوقتنا الحاضر، وتلعب دوراً أساسياً في بث الوعي ونقل المعرفة والتبادل الثقافي.. وكنت في تلك السنوات التي تفتح ف?ها الوعي شديد الإعجاب بتأملات أنيس منصور الفلسفية لما وراء الطبيعة ونظرته للمرأة وذكرياته مع صاحب العبقريات التي دونها في كتابه «كانت لنا أيام في صالون العقاد»، وقد استوقفني كثيراً ما استنتجه من ميول البشر نحو العنف وسفك الدماء لأسباب جينية كامنة في سلالة قابيل القاتل لأخيه هابيل، بالاستناد لرؤية فلسفية لروايات العهد القديم والقصص القرآني. ويبدو أن حياة أنيس منصور كانت تجسيداً للشعرة الرفيعة جداً ما بين العبقرية والجنون، فلم تخل حياته من غرابة في الأطوار على الرغم من أنه كان الأول على مستوى القطر المصري في امتحانات الشهادة الثانوية، إلا أنه كان شديد الانطواء والخجل، ولم يعرف له صديق في صباه وشبابه غير المكتبة العامة التي كان يرتادها بشكل يومي ليستوعب كل ما احتوته من كتب متنوعة، كما عرفت عنه طقوس خاصة في الكتابة، فهو يصحو في الرابعة صباحاً ليكتب ولا يكتب نهاراً، وعرف عنه بأنه لا ينام إلا ساعات قليلة ويعاني من الأرق، حيث ذكر ذلك في مقابلة تلفز?ونية له بإحدى قنوات (ART) مع النجمة صفاء أبو السعود، ومن عاداته في الكتابة أيضاً أن يكون حافي القدمين ومرتدياً البيجاما وهو يكتب. وقد لاقت كتابات ورؤى أنيس منصور في الفلسفة الوجودية بالإضافة لمواقفه السياسية مخالفين كُثر في الرأي وربما خصوماً سياسيين، لاسيما لموقفه من التطبيع مع إسرائيل ومساندته للرئيس المصري الراحل أنور السادات في رحلة السلام مع العدو الصهيوني التي انتهت بتوقيع «اتفاقية كامب ديفيد».. إلا أنه ستبقى الذكرى الخالدة لألمع الأدباء العصر ذوي الثقافة المتنوعة والنشاط في الكتابة الصحافية، فكان منصور بارعاً في سرد المرويّات المحكية بأسلوب أخاذ مشوق بالاستناد لمعرفة واطلاع واسع في دنيا الفلسفة والحكمة والجمال والحب.. فقد استط?ع منصور أن يكتب في قضايا جذابة حلق القراء حولها من جميع الأعمار، لذلك كانت كتبه الأكثر مبيعاً في دور النشر، فهو من أشهر الكتاب العرب لدى غير الناطقين بالعربية.. وقد أعادت جريدة «الأهرام» نشر بعض كلماته وحكمه رحمه الله في عاموده «مواقف» كقوله: «إذا الدنيا أقبلت عليك أعطاك الناس كل الصفات الجميلة.. وإذا أعطتك الدنيا قفاها جردوك من أجمل صفاتك».