٭ عُدت إلى أتبرا، بعد غياب، في أيام العيد، (أتبرا الجميلة بلد الحبايب..) كما كان يتغنى ملك الجاز عبد الله دينق، عندما كانت أتبرا سيدة المدن في غناء الجاز: فرقة دانا والسكة حديد، والشرطة، وطيوبة ومحمد آدم وملك الساكسفون الديرديري. ٭ وفي أتبرا زرت نادي (الأمل)، تعمدت أن أصطحب أبنائي (ألق ومحمد وإلفة)، فالإنسان في حقيقته حيوان ناطق ذو تاريخ و(جدودنا زمان وصونا على الأمل). ٭ من واجب الوالد على ولده أن يختار له اسماً جميلاً، ويذبح له عقيقة، ويحلق شعره ويتصدق بوزنه ذهباً أو فضة، ويحنكّه بالطعم الحلو، ويؤذن له في أذنه اليمنى ويقيم الصلاة في أذنه اليسرى، وينشئه على الفطرة السليمة، وعندي من الفطرة السليمة، الارتباط بالتاريخ والجذور والوطن، و(الأمل) بالنسبة لنا جذر وتاريخ ووطن، أذكر أننا استعرنا في سبعينيات القرن المنصرم عبارة الشريف حسين الهندي الشهيرة، لتكون: (الأمل) بالنسبة لنا الوطن مصغر، والوطن بالنسبة لنا (الأمل) مكبر، و(ما كنا مزايدين). ٭ وفي النادي استقبلنا رهط من اللاعبين والإداريين يتقدمهم(ميرغني كورينا) بطوله الوارف ورهافة حسه وتعليقاته الساخرة، مما أدخل الدهشة في نفسيّ أحمد الرشيد محمد سعيد وخضر التوم حمد . ٭ ولا يستطيع شاعر أو روائي، مهما أوتي من ملكات، وتسلّح بالأدوات والقدرات العالية، أن يصف صدق المشاعر ودفئها، عندما تقف المسطبة الشرقية في استاد أتبرا، على أطراف أصابعها، طوال الشوطين لتحية العمالقة (اللبودي وحاج اسحق وأبو الريش ولوممبا وكورينا وصلاح سالم والهمزتين: همزة الوصل وهمزة القطع: حمزة عبد النبي وحمزة عبيد الله، وزروق وزغبير والتربال وشمبات، وشاويش والسر حاكم،وعبد الله موسى وسيد وبكاري..) وبقية النجوم والأساطير، من لدن تأسيس فريق الأمل... وإلى الساعة. ٭ أجمل ما في كرة القدم، أن الهزيمة فيها (قابلة للاستئناف)، لو سجل الفريق المنافس هدفاً، فإن الفريق الآخر يحاول تعويضه قبل نهاية المباراة، وحتى لو فاز الفريق المنافس، فالفريق الآخر، له بالمرصاد في مباراة الرد، ولو فاز في مباراة الرد سيكون الآخر له بالمرصاد في المباراة المقبلة. ٭ لا هزيمة نهائية في كرة القدم، كل هزيمة فيها قابلة للاستئناف، وكل نتيجة فيها قابلة للجرح والتعديل. ٭ كل هزيمة آنية مفتوحة على نصر مرتقب، فالكرة «في حد ذاتها» مستديرة، وتدور، وتتقن «الدوران»، بل «الأرض» كلها تدور، ودوام الحال من المحال. ٭ لكن في تقديري أن الأمل، عبر تاريخه، وفي عهده الذهبي، أبطل هذه النظرة، فالنصر كان حليفه، باستمرار وعلى الدوام، وأي فريق يلاقيه ليس أمامه إلا أن يقبل بالهزيمة، فأية محاولة للاستئناف تعني هزيمة جديدة. ٭ وما كان هذا سيحدث، إلا لأن الأمل فريق أُسس على (التقوى). أن تكون كلك معه، جوارحَ وجوانحَ، لا طلباً لمال أو تزلفاً لشهرة. (لاعب الأمل يشتري الكدارة من حر ماله، ويدفع عمال أتبرا مرتباتهم غير منقوصة - دعماً للفريق وتزغرد النساء عند الفوز). نساء الموردة كُن يهتفن في الشوارع، للعيبة وهم في طريقهم للاستاد: (كأس الدوري لازم تجيبو ضروري للموردة). ٭ فينزل اللعيبة الأشاوس، على رغبة نسائهم، ويعودون بالكأس محمولاً على الأعناق. ٭ وفي تقديري، أن المرأة في حي (الموردة) سبقت المرأة الأوربية، في تشجيع ومؤازرة الفرق الرياضية، وسبقت نساء الخرطوم «المتفلقصات» اللواتي يعتبرن، أن تشجيع الرياضة من باب «البرستيدج Prestige». ٭ كرة القدم، في الأصل، لعبة الأزقة والحواري الفقيرة، نشأت مزدراة من الارستقراطية التي تمارس رياضات نخبوية، الغولف والتنس مثلاً، لكنها طغت مع مجتمع الاتصال الجماعي بعد الحرب العالمية الأولى، وتودد لها الارستقراطيون بحثاً عن كراسٍ في إداراتها الوثيرة. ٭ بدأت لعبة كرة القدم أوربية، ثم صارت أوربية/ لاتينية بعد انتقالها إلى أميركا اللاتينية، واحتكرت القارتان العجوزتان اللعبة تاريخاً ومهارة وفناً وصناعة. لكن -الأمل- كان سباقاً، وتبدو صورة الشعبية، عنده - أوضح- ٭ لعل الفلاسفة الاغريق هم أول من قال بأن الدائرة اكمل شكل هندسي.كما ذهب إلى ذلك فالح عبد الجبار، فاتهم ان يضيفوا ان الكرة هي اكثر اشكال الدائرة كمالاً. فهذه المتدحرجة، الاكثر استجابة لقانون الجاذبية، والأكثر مراوغة لقوانين الاحتكاك، تأسر عقل العالم. وما من رقعة في المعمورة تخلو من ملاعب ونوادي ومدربين وقمصان، وحكام، باستثناء القطبين الشمالي والجنوبي، لكن الكرة تتدحرج في أتبرا بشكل أجمل وأقرب إلى الكمال. ٭ وفريق (الأمل) في أتبرا، كان يشجعه العقلاء والمجانين، مجانين أتبرا: حواية وأبو حريرة ومختارات ومكلية والبنت طيوبة، كلهم كانوا من مشجعي الأمل، الأساسيين والجميلين. ٭ علَّمنا (الأمل) الكثير، وتعلمنا منه الكثير: علَّمنا الأمل: أن لا نشرب من دلو الآخرين، وأن نلوي عنق الدجاجة التي تأكل عندنا وتبيض عند غيرنا. ٭ وعلمنا، الإخلاص، والتفاني والفداء، وأن نثق في المستقبل، بقدر ما حبانا التاريخ، وأن نزرع الابتسامة في وجوه الآخرين - دون منٍ- ونرعى الصغار ف(البلوط الضخم ينمو من الجوز الصغير). ٭ ولهذا كنا نتحسس البراعم، في الأزقة، وهم يتحاورون بكرة الشُرّاب، ونفسح لهم المجال واسعاً في ميدان النادي الفسيح (أمام شركة الفول)، وننظر إلى أبناء الموردة من اللعيبة الذين انتظموا في غيره من النوادي، نظرة تعزّهم وتجلّهم وتجّبرهم للعودة إلى النادي الأصل، ولا نرضى إلا بالانتصار، والانتصار العظيم، ونزرع شوارع الموردة: أزهاراً وقمحاً وفكراً، وأغنيات، ف (الموردة) في الأصل رياض للفكر ومغانٍ للهو والإمتاع. ٭ ولكننا تركنا أتبرا، وبعدنا عن (الأمل)، ومن يبعد عن الأمل، يشعر بما تشعر به الأسماك و(النهر ينحسر). ٭ خرجنا من أتبرا..! وما فائدة الدنيا الشاسعة (إذا كان حذاؤك ضيقاً) والأيام بلا أمل! ٭ و(كأس الدوري لازم تجيبو ضروري للموردة) و(جدودنا زمان وصونا على الأمل).