صباح الأربعاء قبل الماضي بدت الساحة الكبيرة أمام مكتبة الحفيد بجامعة الأحفاد للبنات تماماً كما «الميناء البرى»، فذاك اليوم هو يوم تحرك قوافل الطالبات صوب قرى الريف. الحقائب مكدسة فى أكوام والى جوارها «بكتات» الدقيق والسكر وقوارير المياه والبطاطين، وعشرات البصات تصطف على أسفلت الجامعة، كل واحد منها يحمل لافتة تدل على الجهة التى يقصدها.. أم كويكة والوساع فى النيل الأبيض.. كازقيل وهجليجة والله كريم وأم عشر فى شمال كردفان.. الرحماب والجوير والداخلة فى ولاية النيل .. بيوض وأرقو وفريق فى الشمالية.. الشكابة وفارس?ومحمد نور فى الجزيرة ..الكنز والجنان والصوفى البشير فى القضارف.. عواض والرميلة وود شريفى فى كسلا .. سنكات وجبيت فى البحر الأحمر .. وغيرها من المحطات والقرى المرجوة. د. أبو بكر عبد العظيم عميد مدرسة التنمية الريفية ود. بابكر أحمد بدرى مسجل الجامعة ومن خلفهم كتيبة متكاملة من أساتذة الجامعة وأستاذاتها ومشرفيها ومشرفاتها، يتصدون للكبيرة والصغيرة، ويسدون ميدانياً أية ثغرة طارئة. د. سمية بشير «سمية بت حفصة بت كنتباي أب قرجة» صوتها «يلعلع» فى المايكرفون: «البنات الما استلموا بكتات الدقيق يجوا يستلموا... يا بنات ما تنسن الاسكراتشات عشان تطمنوا أماتكن وأبواتكن... بص الزيداب تعال شوية لى قدام خلى بص العرشكول يخش باب الجامعة.. يا بنات ما تنسن السويترات وفنايل البرد وأى أدوية خ?صة بيكن .. هوى البنات الماشات الداخلة ولاية النيل ما تغلطن وتركبن البص الأصفر بالبرتقالى ده ماشى بانت ولاية كسلا». والطالبات كأسراب الحمام يفردن أجنحتهن فى زهو وحبور ليحلّقن صوب سماوات الريف السودانى كى ينثرن الوعى والضياء. كان الحدث كبيراً ومبهجاً، وهو ليس غريباً على الأحفاد، فقد تواترت هذى الرحلات الريفية عبر السنوات الطوال لتأكيد فلسفة الجامعة المجتمعية التي تنفتح على الريف من خلال مدارسها ومعاهدها ومراكزها ومقرراتها الدراسية، وفوق هذا تبعث بآلاف الطالبات في مثل هذه القوافل الريفية الإجبارية، لا لنشر رسائل العلم والوعى والتنوير فحسب، ولكن كي يعلمن ويتعلمن من أمهاتنا وآبائنا وبناتنا فى الريف، ذاك النموذج الإيجابى الفطري لإنسان الريف العظيم والمثابر، وهو يتعايش ويتكيف مع موارده البيئية وإن شحّت. ما من أب تضجر أو أم توجست، فق? أدرك كل بيت فى السودان عِظم الرسالة التى تضطلع بها الطالبات وهن يقبضن بأكفهن على جمر التنوير فى تلك القوافل البهيجة والمضنية، ويكفى أن أحد الآباء قال إن ابنته نضجت وكبرت خمس سنوات بعد عودتها من هذه القافلة الميدانية.. يجبن القرى من بيت لبيت ليقدمن توعية مبكرة حول سرطان الثدي وصحة الأمومة.. يحكين ويوجهن بأساليب التغذية الرشيدة وفق معطيات البيئة المحلية.. يشرحن سبل التعامل العلمى مع مرض الايدز.. يشرفن على إنشاء وتدريب بؤر ووحدات ريفية قوامها أربع سيدات وست شابات فى كل قرية، وتزويدهن بالمعينات الإرشادية ليكن?على اتصال بالجامعة لضمان تواصل رسالة الوعي.. يحملن الدواء والطعام الذى تيسر إلى القرى النائية التى أجدب خريفها وأمسكت سماؤها.. وفوق كل هذا يعشن حياة الريف ويتعرفن على عادات أهله وموروثه الثقافي والاجتماعى مما يصقل مسقبلهن المهني. لقد كان عِظم الحدث وإشراقه فى كبر حجم القوافل الريفية التى تم تفويجها هذا العام لقرى السودان فى تسع ولايات ولمدة تجاوزت الأسبوع، إذ بلغ عدد القرى المستهدفة «140» قرية، وعدد الطالبات المشاركات أكثر من ألفي طالبة فى معيتهم «140» مشرفاً ومشرفة، وظلت إدارة الجامعة تتابع ترحالهن ساعة بساعة ولحظة بلحظة، ولا تتوانى إدارة الجامعة وهيئة التدريس على أعلى مستوياتها في «ركوب الظلط» والسفر بعرباتهم الخاصة عبر مئات الكيلومترات حال حدوث أى طارئ أو إشكال. التحية والإجلال لأهلنا فى الريف.. ولتلك السواعد النبيلة السمراء من شيوخ وآباء وأمهات وبنات وأطفال وهم يمنحون الكرم الوفير وبشاشة الترحاب ودفء الاستقبال للطالبات.. يبذلون المطارف والحشايا الوثيرة والغطاء والستر للبنات وسط بناتهم وزوجاتهم وأمهاتهم .. ينحرون الذبائح كما فعل شيخ ثابت الوسيلة السمانى فى العرشكول، وكما فعل المعتمدون وأجهزة الحكم الولائي والأعيان وشيوخ العشائر والطرق الصوفية وغيرهم من البسطاء النبلاء.. يهبون النخوة السودانية الأصيلة كما فعل ذاك الجندي النبيل محمد عبد الرحمن من شرطة المرور في مدخل?أم روابة حين أدخل البنات فى بيته وفى غرفة أمه ليبتن بعد أن تعذر دخول البص ليلاً.. التحية لريف السودان وأهله الكرام وهم يمسكون بنواصي الخير والسماحة والمروءة فى كل القرى الحبيبة التى استضافت وبذلت وأكرمت.. التحية لأسراب الحمام وهي تعود بعد أن ملأن سماء الريف وعياً وضياءً، وهن ينشدن «غني يا تاريخنا غني.. نحن بالأحفاد نفاخر .. بي ملاحم حجة كاشف .. فاطمة طالب وخالدة زاهر».