في وقت كان يعقد فيه حزب المؤتمر الشعبي المعارض مؤتمرا عاما يخص ولاية الخرطوم راجت شائعات في العاصمة وبعض الولايات مفادها وفاة زعيم الحزب الدكتور حسن عبدالله الترابي، وتداولها المواطنون على نطاق واسع، بل ان الشائعة انتشرت في اصقاع السودان كافة. وبينما كان البعض يبحث عن الصدق ويلهث خلف المعلومات الاكيدة حول الامر، كان الرجل يخاطب انصاره في احدى القاعات التي تم تجهيزها بعناية فائقة لاستقبال نحو «5» آلاف من عضوية الحزب من انحاء السودان كافة. ومع تقدم الوقت تراجعت الشائعة خاصة بعد ان دون احد متصفحي مواقع الت?اصل الاجتماعي ان الرجل بصحة جيدة وغادر الى منزله بعد مخاطبة انصاره بضاحية بري شرق الخرطوم ويبدو ان البعض تنفس الصعداء بعد ان تأكد من ان الامر لا يعدو سوي شائعة كتلك التي تصدر بين الفينة والاخرى، خاصة في الفترة التي تلت مقتل زعيم الحركة الشعبية الدكتور جون قرن دي مبيور. ولم يكن الترابي بمعزل عن شائعات وفاته فاطلق الرجل تصريحا ساخرا ولاذعا بعد ان نما الى مسامعه شائعة موته وقال انا حي يرزق وان من مات هو السودان. وتابع: من قبل اطلقوا ذات الاشاعات بمرضي واصابتي وعجزي. وانتشرت اخيرا شائعات عديدة دون معرفة مصادرها او راويها او ناقلها الا ان المتفق عليه ان انتشار الوسائط الاعلامية المتعددة وتقدم تكنولوجيا الاتصال يظل عاملا سريعا. ولم تكن تلك الشائعة هي الوحيدة خلال السنوات القليلة الماضية ومن الشائعات المشهورة التي راجت في البلاد وكادت تؤدي الى فتنة كيبرة في الخرطوم، شائعة مقتل المنشق عن قوات الجيش الشعبي اللواء فاولينو ماتيب، والتي تزامنت مع ابرام الرجل لتحالفات مع الحكومة، فاضطرت السلطات بالخرطوم الا ان تنقله عبر طائرة عمودية الى الاذاعة لنفي خبر مقتله، وتوضيح ملابسات الامر لدحض الشائعة المخيفة، والتي كان يخشى ان تؤدي الى اندلاع اعمال عنف واسالة دماء بريئة، وقد اتهمت الحكومة حينها مطلقي الاشاعات بمحاولة زعزة استقرار البلاد. وطالت الشائعات رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت وتناقل المواطنون خبر مقتله في حادث تحطم طائرة كانت تقله الى احدى الدول الافريقية، الا ان الحقائق سرعان ما كذبت تلك الشائعات التي انطلقت بلا هوادة. ولم يكن الترابي وهو اول من يصاب بسهام الشائعات اذ تعرض زعيم الحزب الشيوعي ابراهيم نقد للموقف ذاته، واتضح لاحقا ان الرجل يمارس حياته كالمعتاد. وبحسب استاذ الفكر السياسي بالجامعات السودانية حاج حمد محمد خير ان الاشاعة في تاريخ السودان السياسي تخدم اغراضا محددة، وقال ان الغرض من الاشاعة اضعاف الحالة النفسية للشخص او التعبير عن عدم الرضا لافعال الشخص وبالتالي اطلاق شائعات بوفاته لاحباطه واظهار ضعفه، وسرد حاج حمد في حديث ل «الصحافة» واقعة شائعة انتشرت فى 1958 بعد مغادرة رئيس الوزراء انذاك عبدالله خليل الى بريطانيا، ومفادها انه سافر بغرض التنازل عن السودان، واستمرت الشائعة في اوساط المجتمع حتى عودته من المملكة المتحدة، وحينها سأله احد الصحافيين في?المطار:» ياريس هل صحيح انك سافرت من اجل بيع السودان للبريطانيين»، فانبرى له الرجل بعد ان اندهش من سؤاله ليقول»» نعم انا ذهبت لبيع السودان ولكنني لم اجد من يشتري بلدا يعيش فيه 11 مليون سياسي» وكان ذلك العدد هو عدد سكان السودان آنذاك. ويشير حاج حمد الى ان الشائعة احيانا تروج عمدا للتخطيط او احباط مؤامرة متوقعة واستدل على ذلك بحرب عام النكسة بين العرب واسرائيل، حينما اطلقت مخابرات الاتحاد السوفيتي شائعة لاغراض تجارية بحتة لاسلحتها. ولفت حاج حمد ان الشائعات عبارة عن مواجهة غير مباشرة واعتبرها احد وسائل «الايدلوجيا»، وقال: ان مصدر الشائعة غالبا يكون مجهولا، لكن هذا لا يعني عدم وجود جهات او افراد لهم مصالح محددة يخدمهم اطلاقها، وربما يلجأون لاطلاق الشائعات لتحقيق رغباتهم حتى ولو كانت ضئيلة. ويقول الخبير الاعلامي واستاذ الاعلام بجامعة الخرطوم الدكتور فتح الرحمن محجوب ان الشائعات تجد ارضية خصبة فى السودان لاسباب عديدة، منها ضعف وسائل الاعلام المحلية خاصة في ظل تقدم التكنولوجيا والتدفق الهائل للمعلومات عبر الفضاء المفتوح. واكد فتح الرحمن ل«الصحافة» عبر الهاتف بالامس ان انتشار الشائعات يجب ان يحد منها وجود وسائط اعلامية لا تعاني من اشكالية التواصل مع الجماهير. ورأى ان وجود اعلام قوي يحد كثيرا من قدرة الاشاعة على الانتشار، غير انه استدرك وقال: ان حبل الاشاعة قصير ولا يستطيع الصمود في وجه الحقي?ة كثيرا. واشار خبير علوم الاتصال الى ان اطلاق الاشاعة دائما ما يرتبط بغرض ما او مصلحة لشخص او جهة، وقال ان الشائعات فى الشارع السياسي تأتي غالبا لجس نبض الشارع، واستباق الاشياء في طور الاحتمال، او لتركيز الانظار على الشيء يرغب مطلقو الشائعة بحدوثه بعدها. وذهب د. فتح الرحمن محجوب الى ان اطلاق الشائعات يسبقه تخطيط وانها ليست فعلا عفويا بل يتم وفقا لنظرية تسمى «دوامة الصمت». وتعمل النظرية على رؤية مفادها ان الطرق على موضوع محدد عن طريق الشائعة يعطي مدى ودرجة اهتمام الرأي العام بموضوعها. واعتبر الخبير الاعلامي ان شائع?ت الوسط السياسي تهدف في المقام الاول الى البلبلة واثارة الفوضى، او الى اضعاف الخصوم سياسيا عبر اشاعات مغرضة تقصد شخصية المستهدف لايذائها، مضيفا: لا يمكن تفادي اطلاق الشائعات في الوسط السياسي، ولكن يمكن قطع حبالها بالحقيقة وذلك يتم باظهار الشيء على حقيقته. ونوه الخبير الاعلامي الى اهمية وجود اعلام واع يتحرى المصداقية لقتل الشائعات قبل انتشارها مسببة الفوضى والبلبلة. واعتبر رئيس حزب الوسط الاسلامي يوسف الكودة من جهته ان اطلاق الشائعات غير جائز، وقال انها حرام شرعا، موضحا ان الشائعة تدخل في اطار النميمة والاخيرة من الكبائر. وقال الكودة في حديثه ل«الصحافة» بالامس ان الاشاعة تهدف غالبا الى خلق فوضى في المجتمع الاسلامي، وتدخل في اطار الكذب والنميمة الضارة، لافتا الى الاحاديث التي وردت محرمة النميمة، وهو ما يعني ان الاشاعة ايضا حرام.