يعد الاستقلال من أكثر الأحداث التي ينفعل بها جيلي الذي وجد هذه الذكرى العطرة يتردد صداها في الآفاق وهو يستمع لعبارات مثل ... عاش السودان حرا مستقلا ... وعاشت وحدة السودان ... وما كان يردده على مسامعنا الراحل جعفر نميري رئيس السودان 1969-1985م من مقولات عبر الإذاعة وهو يخاطب علم السودانى الواحد الموحد : سيظل هذا العلم عاليا خفاقا على مر العصور والأجيال تعبيرا عن كبرياء أمة وعنوانا لعزيمة وشعب. كنا ننتظر ذكرى الاستقلال بفارغ الصبر حتى تغدق إدارة المدرسة علينا شيئا من الحلوى ونستمع للشعر والكلمات الرصينة من?المعلمين المنفعلين بذكرى الاستقلال والموقرين لعلم البلاد ثم نذهب في عطلة بالمناسبة السعيدة وكان الهدف من تلك العطلات الممتدة ليوم أو يومين «بمناسبة الاستقلال» هو ربط المجتمع الذي يجهل عظمة المناسبة بالذكرى الوطنية التي كنا نظنها خالدة خلود السودان وباقية بقاء النيل . وكان الأستاذ ميرغني الفكي محمد «خريج بخت الرضا» وتلميذ عبد الرحمن علي طه وما أدراك ما عبد الرحمن علي طه ذاك الوطني الغيور والمربي الكبير وكان ميرغني الفكي من بين تلاميذه وهما يختلفان من حيث الإنتماء السياسي بينما الأستاذ ينتمي لحزب الأمة كان?التلميذ ينتمي للوطني الاتحادي وكان ميرغني الفكي محمد شديد الشبه بالزعيم إسماعيل الأزهري وعرف عنه أنه كان في ذكرى الاستقلال أول يناير من كل عام يرتدي زيا أفرنجيا كاملا كالذي ظهر به الزعيم إسماعيل الأزهري وهو يرفع علم السودان ويجمع التلاميذ في قريته النائية بشمال كردفان ويقول لتلاميذ المدرسة لمن لم يكن رأى الأزهري منكم هو أنا ..وينظر إلى هندامه وقامته القصيره وطلعته البهية .ولم يكن الاستقلال هو فقط هذا وذاك ولكنه كان كل شيء بالنسبة للسودان ووحدة السودان والتي لم يتم الاستقلال إلا بعد الإطمئنان عليها في ?ؤتمر جوبا الذي نظمته السلطات الإنجليزية في عام 1947م وكأني بها تسعي جاهدة لفصل الجنوب بعد أن وضعت خيار ضم جنوب السودان لمجموعة دول شرق افريقيا ممثلة في كينيا ويوغندا ولكن شعب الجنوب أراد الوحدة الوطنية ومنحنا فرصة العمر التي ضاعت من بين أيدينا وتسربت كما يتسرب الماء من بين أصابع اليد .وتحل الذكرى الخامسة والخمسين لاستقلال السودان وقد فقد الاستقلال أهم مقوماته وأعظم ركائزه وهي الوحدة الوطنية التي تلاشت بانفصال الجنوب عن الشمال بعد أن عاد الاستعمار من جديد باسم السلام ووقف الحرب التي أشعلها ليعقد صفقة ن?فاشا التي أدت لتقرير مصير الجنوب ونسي هؤلاء أن تقرير مصير الجنوب قد حدث بالفعل في 1/1 1956م وانتهى الأمر ولم تكن الحرب هي نهاية الدنيا ولم تكن الحروب تقف بعقد الصفقات وفرض الاستسلام على طرف دون طرف وإظهار الجنوب كأنه مستعمر من قبل الشمال أو مقهور من قبل المسلمين الذين يعتبرونهم غزاة وهذا للأسف ما فشل فيه المسلمون عبر تاريخهم أنهم لم يثبتوا أنهم أصحاب أرض وحق في افريقيا وماذا كانت النتيجة بعد الانفصال كانت النتيجة أن الحرب التي زعموا أنهم جاءوا لوقفها لم تتوقف بل اشتعلت في كل السودان القديم بعد أن كانت في?مكان واحد هو جنوب السودان وأمتدت الحرب لدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وأشتعلت الحرب في الجنوب نفسه بعد إعلان انفصال دولة الجنوب وما أن تم هذا الانفصال حتى ظهرت حركات التمرد في بحر الغزال وأعالي النيل وأصبح القتل على الهوية القبلية دينكا نوير شلك بعد كان الصراع يدور بين الجيش السوداني ومتمردي الجنوب وطالما الحرب مشتعلة والناس يقتلون في كل مكان فلا معنى للحديث عن السلام والأمن والاستقرار ولا معنى للحديث عن الرفاهية وعن الاقتصاد وإزدهاره وعن تقدم السودان وخروجه من دائرة التخلف السياسي والاقتصادي والإ?تماعي. وجاء الانفصال وقبله كان السودان الموحد من الدول المنتجة والمصدرة للنفط وقد حدث ذلك في ظل الحرب وتمكن السودان من تصدير نفطه قبل عدة سنوات من توقيع إتفاقية السلام في نيفاشا و لكن ماذا يحدث اليوم صار البلدان السودان ودولة جنوب السودان يتصارعان على أنصبة من صادر النفط الذي يتم إنتاجه في الجنوب ويصدر إلى الخارج عبر ميناء بورتسودان وشكل إيجار خط النفط أزمة طاحنة بين البلدين يمكن أن تؤدي لدمار كل البنيات التحتية الخاصة ببترول السودان وعلى رأسها الخط الناقل للنفط وآبار النفط التي قد لا تسلم من الدمار في حال?إزدياد وتيرة العمليات العسكرية بين البلدين أو داخل كل بلد بدعم من البلد الآخر كما يحدث الآن وعليه فإن الانفصال بين الشمال والجنوب وقع لكي يقضي كل طرف على الطرف الآخر ولا ندري لمصلحة من ؟ ورغم الفترة الإنتقالية التي أعقبت توقيع إتفاقية السلام إلا أن السودان في دولتيه يعاني من الحكم الشمولي والعسكري والدكتاتوري ولم يشهد السودان الديمقراطية التعددية ولا الحكم الراشد ولا الشفافية لا في نيفاشا ولا بعد إنفصال الجنوب وتتحدث التقارير عن الفساد ومن بينها تقرير المراجع العام للدولة ويصنف السودان في قائمة الدول الفاش?ة وقد تكرر هذا التصنيف ولم نستطع حتى اليوم الخروج من هذه الوصمة أو نغادر مربع الفشل وهو مبني على عجز الدولة عن الوفاء بمتطلبات شعبها وتقديم الخدمات الضرورية لكافة المواطنين دون تمييز والتي تشمل الصحة والتعليم والأمن والمياه الصالحة لشرب الإنسان والغذاء الجيد وأن تكون الدولة خالية من النازحين والمشردين والخائفين ووفقا لهذه الإعتبارات نحن والصومال في مركب واحد وقد نلحق بالصومال إذا تمكنت المحاولات الجارية الآن من قبل تجمع كاودا وما يجري في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وما يحدث في شمال كردفان من نقص في الغ?اء والمراعي بسبب الجفاف وندرة الأمطار وغياب المعالجات الجدية لما يجري هناك وما يعانيه الاقتصاد من تدهور وضعف في الموارد وارتفاع في الأسعار الذي شمل كل شيء بما في ذلك البنزين والذي تعمل وزارة المالية لمغالاته بدلا من غلائه وارتفاع أسعاره بطريقة تؤدي لتوقف الحياة بكاملها ناهيك عن الإحتجاجات الشعبية التي تخشي منها الحكومة أكثر من خشيتها من زيادة معاناة المواطنين وضيق العيش الذي يواجهونه في كل حدب وصوب . كل هذه الحقائق والأوضاع تجعلنا نقول لذكرى الاستقلال لا تأتي ولا نريد أن ترينا بهذه الصورة والحالة والتي لا مثيل لها وما يحدث في السودان عشية استقلاله ولا خلال فترة الستينيات من القرن العشرين ولا بعدها حيث الجنيه السوداني تساوي قيمته أكثر من ثلاثة دولارات وأكثر من ثلاثة جنيهات إسترلينية ولم يكن السودان مدينا لأي دولة من دول العالم بل إن البرلمان السوداني رفض فكرة المعونة الأمريكية قبل وقوع إنقلاب 17 نوفمبر على يد الفريق إبراهيم عبود وذلك حتى لا يتعلم الشعب السوداني الإتكالية والاعتماد على الغير واليوم يتل? السودانيون الإعانات بل يعيشون عليها في كثير من مناطق السودان وقد قطعت الولاياتالمتحدةالأمريكية كثير من علاقاتها ومعاملاتها مع بلادنا ولكنها تعلن باستمرار أنها تقدم دعما إنسانيا عبر منظمات المجتمع المدني في دارفور وشرق السودان وجنوبه وكان السودان في صدارة الدول الافريقية رياضيا واليوم في الذيلية وقد أصبحت رياضة كرة القدم بكل أسف تجارة بعد أن كانت هواية وضريبة وطنية يؤديها اللاعبون عبر أنديتهم وعبر الفريق القومي وكان النصر باسم السودان ولأجل السودان وقد أصبح اليوم لصالح اللاعب لكي يزايد به في سوق التسجي?ات ولمن يدفع أكثر. وأصبح التعليم من أكبر مجالات الاستثمار والربح من خلال المدارس الخاصة والجامعات الخاصة ورياض الأطفال العالمية ولا أدري ماذا تعلم هذه أطفالنا وأولادنا وبناتنا ومن هم أكثر منهم وطنية وشأوا في خدمة الوطن تلقوا تعليمهم ودرسوا في مدارس بالداخليات وتصرف عليها الحكومة من الخزينة العامة والخزينة العامة لا تتجزأ ولكن الشعور بالمسئولية تجاه الأجيال هو الذي حافظ على خورطقت وحنتوب ورمبيك الثانوية ووادي سيدنا ومعهد أم درمان العلمي وجعل منها موئلا لأبناء السودان وللأذكياء وللضعفاء من أبناء الشعب يتعل?ون على يد أفضل المعلمين ويسكنون في الداخليات والدولة ذات الدولة تعلم كلفة التعليم وعبء الداخليات ولكنها مجبورة على شعبها كما قال الشاعرى ود الرضي إت مجبور على الناقص تتمو وإت مجبور على المبتور تلمو وإت مجبور على العاجز تهمو ومخلوق الإله رفقك يعمو وطالما أن الأمر كذلك علينا أن لا نسكب كثيرا من المداد على ذكرى الاستقلال وتمجيده والسبب أن استقلالنا قد ضاعت معالمه وتاهت أهدافه ولم يبق لنا غير ذكراه وصورة الأزهري وهو يرفع علم السودان وينزل العلمين البريطاني والمصري اللذين كانا يمثلان دولتي الحكم الثنائي يساعده الأستاذ محمد أحمد محجوب زعيم المعارضة وستكون هذه الذكرى هي الأكثر إيلاما في تاريخ شعبنا بعد انفصال الجنوب وعلينا أن لا نذكرها كثيرا رأفة به وبنا. [email protected]