لم يكن المؤتمر الوطني في حاجة إلى كل هذه الحفلات الراقصة التي كلفت الخزينة العامة مليارات الجنيهات ليعيد انتاج نفسه لأربع سنوات قادمة تضاف إلى 21 عاما خلت ولحسابات فرضتها ظروف التطورات السياسية والأزمات التي بلغت أعلى سقفها في دارفور والمحكمة الجنائية . كان يكفيه فقط الدور الذي تلعبه أحزاب القصر التي يتبناها وهي الأحزاب التي استنسخها لتضيف رونقا سياسيا للمسرح السياسي الداخلي في المناسبات المختلفة في إطار شروط اتفاقية السلام والتي تقوم بدور « الحنانة « في عرسه الكبير . وذلك لعدة أسباب منها : أولا أن هذه الانتخابات وبرغم انها جاءت كنتاج لاتفاقية السلام إلا أنها كان يمكن أن تشكل نواة لتحول ديمقراطي حقيقي بنسبة 50 بالمئة إلا ان المؤتمر الوطني بعد انفراده بالسلطة لأكثر من عقدين لم يعد قادرا على تحمل الشراكة الحقيقية من قوى سياسية أخرى تحترم نفسها شريكة في الوطن. بل أنه لم يطق حتى شراكة الحركة الشعبية طوال الفترة الانتقالية رغم الشراكة بينهما في اتفاق السلام . ثانيا الولاياتالمتحدة ورعاة نيفاشا ليسو معنيين بنزاهة وشفافية الانتخابات بقدر ما هم معنيون بإيجاد حكومة تبصم على نتائج استفتاء تقرير المصير الذي أصبح طريقا جاذبا للانفصال . ثالثا : لم يكن الحزب الحاكم في حاجة إلى تزوير الانتخابات وتزوير السجل الانتخابي والصرف البذخي بالطريقة المكشوفة وحفلات الرقص الجماعي ،كان يكفي فقط ان يمدد ولايته بذات الشرعية الانقلابية بعيدا عن تكليف نفسه عناء الحديث عن التحول الديمقراطي . لكن المبرر هو أنه يريد تغيير الماكياج فقط بشروطه وإنتاج نفسه دون شريك حقيقي وإيجاد « محللين « لتحمل مسؤولية التوقيع على الاعتراف بقرار الانفصال بإقحام الأحزاب الكبيرة « على طريقة المغفل النافع « دون ان يدفع استحقاق التحول الديمقراطي . موت حلم: وفق المشهد الماثل سيموت حلم التحول الديمقراطي الحقيقي وبعد الاستفتاء المفضي للانفصال العام القادم سيأكل المؤتمر الوطني «صنم العجوة « أو اتفاق نيفاشا الذي ظل يعبده ويدفع عنه الآخرين . ولن يكون مفاجئا لأحد أن يعود البشير من جديد رئيسا بمباركة أميركية وغربية وبمساعدة فاعلة من مفوضية الانتخابات وبمساندة موارد الدولة ومؤسساتها العامة لإكمال مهمة الاستفتاء . سيسيطر المؤتمر الوطني على معظم الدوائر حسبما هو مخطط لذلك وسيعيد إحكام قبضته على مفاصل الدولة . سيكافئ المؤتمر الوطني رؤساء أحزاب القصر ومستشاريه بإعادة توظيفهم من جديد ورعايتهم تحت عباءة المؤتمر الوطني مع تبدل بعض المواقع . ستصدر تقارير المراقبين الدوليين بما يتضمن إثبات حدوث عمليات التزوير والتجاوزات منذ بدء عمليات التسجيل وستستخدم هذه التقارير ضد المؤتمر الوطني في الوقت الذي يختاره المجتمع الدولي على طريقة انتخابات كرزاي . سينفصل جنوب السودان وستقوم دولة جديدة في جنوب السودان بكل تداعيات ميلادها من المشاكل المتفجرة المسكوت عنها في الاتفاقية وستضاف على دارفور مشاكل جديدة تولدها مقتضيات الانفصال . ستظل دوامة النزاع السياسي في دارفور تراوح مكانها خاصة وان معظم مناطق دارفور ستكون خارج صيغة الانتخابات الحالية . سيحتدم الصراع السياسي بين القوى السياسية المعارضة والحزب الحاكم حول القضايا الأساسية وقضايا التحول الديمقراطي الحقيقي ليزيد من حالة التعقيد والتصعيد . سيظل الوضع في السودان في حالة دوامة وعدم استقرار . وستبقى المحكمة الجنائية هاجسا يلاحق البشير ويحاصر دوره في نطاق دول الجوار الجغرافي القريب فقط مما يشل دور الدولة وحراكها . سيكتشف العقلاء في المؤتمر الوطني أنهم أضاعوا فرصة نادرة لتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي وإجماع وطني بعيدا عن الإقصاء والأنانية السياسية كان يمكن أن يشكل حائط صد ضد المخاطر والتحديات الماثلة . سيسجل التاريخ السياسي في السودان أن الشمولية بشقيها العسكري والمدني كانت هي الآفة الحقيقية التي حرمت السودان من التطور الطبيعي ومن الاستقرار والسلام الاجتماعي . * واشنطن