ترجّل فارس الصولة «بمعنييها العربى والأفرنجى» عن صهوة جواده وسُيّر للرحيل من غير اختياره، صمت كنارنا عن التغريد، انكسرت قيثارة اللحن الطروب والفن الأصيل، انطفأت شمعة كانت متقدة بزيت الثقافة والتراث، تُشع بهاءً وتزين ربوع سوداننا الحبيب، مرآة جلّية يقف أمامها الفن السودانى بكامل عتقه وجماله تعكسه للعالم أجمع. وردى المعلم الهرم الأشم الذى مارس مهنة التعليم فى صباه، يوجه ويُبث علمه لثلة قليلة محصورة بين حوائط أربعة، وما لبث أن وسّع المواعين ونشره على الملأ حين علم بغزارته وبمنفعته للبرايا، وهنا لن نحصر هذا العلم في الفن وحده وإن كان هذا قد تحمل لواءه متفرداً وصعد به مختلف المنابر، أفريقية، عربية وعالمية، وأصبحت تشدو به الغابات فى الأولى والصحارى فى الثانية وصداه يذيب الصقيع فى الثالثة، وإنما واجب علينا الوقوف عند علمه والتأمل فى شتى مذاهبه وسننه، والمعلم إن لم يوجه رسالته لك مباشرة وكنت حريصاً على تعلمها فهي ستفيدك بلا شك، ومما يجب أن نحرص على تعلمه من وردى، بأن لأى إنسان فى هذه البسيطة رسالة عليه حملها وأدائها على الوجه الأكمل، وألا يأبه بقاعدة انطلاقه «قرية نائية فى ربوع سوداننا الحبيب أم مدينة كبيرة». ولقد علمت أن وردى أتى للعاصمة فقط لتسجيل عمل فنى نوبى خالص بالإذاعة، وهذه كانت أمنيته الأولى، وعرضها على عمه وكفيله كما ذكر هو، غير أن عمه حاول إثناءه عنها بتعليق نوبي ساخر عندما قال له عمه: ولماذا لا تتمنى أن تكون رئيس وزراء. ونحمد الله نحن السودانيون أن لبى رغبته لا رغبة عمه، فها هو يحقق للسودان ما لم يحققه إن كان رئيس وزراء، وعلى مدى نيف وستين عاماً نحتفى به ومعه، ولكن كم من الزمن كنا سنصبر عليه إن كان رئيس وزراء؟ وردى برغم رقته ونسبة اسمه للورود إلا أن بعض معجبيه يشبهونه بالورد أى الليث، فقد كان أبياً فخوراً بنفسه وبرهطه من غير «أنا» ويفاخر بعشيرته ونشأته، ولم يلهه التُجوال بالعاصمة «الخرطوم» والعواصم والمدن العربية والأفريقية والعالمية عن لهجته وتراثه النوبى وإفراد مساحات مكانية وزمانية لهما، فقد تعلمنا منه نحن الناطقين بها لا بغيرها «آى كاجن ليك مشكا»، كما أنه يحترم كل الناس وزملاء فنه خاصة، ويدعوهم للرفعة بالفن وحفظ تراث هذه الأمة السودانية التى أحبته عن بكرة أبيها وأجمعت على تميزه وتفرده. وكان ناطقاً بالحق ولو على حساب أقرب الناس إليه، فلا يتورع فى ذكر الحقيقة ولو على نفسه. لا أقول إنه خليل فرح ثانٍ أنجبته منطقة النوبة بشمال بلادنا الحبيبة، لكن وردى جهده فى رسالة الفن والتراث كان مضاعفاً عن جهد خليل فرح، ويعزى ذلك لتدني الثقافة المجتمعية ودور العلم وحصرها في الأكاديميات فقط، وأكبر الأسباب لهذا التدني أيضاً غياب خلاوى القرآن عن مجتمعاتنا، وكان وردى شقياً فى حياته لأنه صاحب عقل متفتح وأفق واسع: ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعمُ وصاحب نفس كبيرة وهمة عالية: إذا كانت النفوس كباراً تعبت فى مرادها الأجسام وما ذكرته أعلاه وما لم أذكره عن وردى يعلمه كل الشعب السوداني، لأنه كتاب مفتوح ببساطته وتلقائيته في التعامل مع الآخرين واحترامهم، وهذا في حد ذاته يزيده حباً فى نفوسهم، من غيره جلس أرضاً فى حضرة جلال بلده، وتهذب فى الكلام أمامه.. بالرغم من أن الكابلى أختار القيام للوطن «القومة ليك يا وطنى»، خالقنا ومولانا عبدك محمد عثمان وردي تعلمنا منه الكثير، وأدخل السرور في نفوس جلنا إن لم يكن كلّنا، ونعلم يقيناً بأنه ليس بكثير عليك، ولكن ضراعتنا ودعاءنا أن تتقبله عندك القبول الحسن، وأن تبّدل سيئاته حسنات، وان تغمره برحمتك التى وسعت الكون وما حوى، وأن تلهم آله وذويه الصبر وحُسن العزاء.