وردي أيها الملهم فينا.. النجم القصي العلو.. المستفيض الضياء.. ماذا نكتب عنك وقد سلبنا رحيلك فيض الخواطر.. وكفاف المداد، سلبنا رحيلك الدموع التي يريح بها الباكون أنفسهم، ويطفئ بها المحزنون لواعج أفئدتهم.. لم يكن نجم وردي يأتلق على سائر مطربي عصره وسابقيه إلا ولديه من أسباب التفوق والفيض ما يؤهله لذلك، فقد عاش فناناً جامح الطموح خصب العطاء، مستبصراً موضعاً لقدميه منذ بداية المشوار، استوثق من كون الفن في سحره تاجاً يزين هامته بين الناس، فبذل كل ما يمكن أن يبذله المرء في سبيل غايته ومنتهاه. لقد أبدع وردي في كل فنون الغناء فصيحه وعاميه، عربيه ونوبيه، حتى تفوق على نفسه وعرف قدرها، واعتد بها حتى أشكل على الناس بين تواضعه واغتراره بنفسه!! سمعت كلماته وأنا طفل يافع في ربوع «أرقو» من أخي «ياسر علي جبل» وهو يدندن بأغنية «صعيب وصفك لأنك هالة كلك ضيى.. وفوقك هيبة وأجمل قامة وأسمح زي» ومن ثم وثّق الصديق «أمين باشري» محبتي لكلماته وموسيقاه. جاء وردي من أقاصي الشمال، من «صواردة» معلماً، ومربياً قالباً المفاهيم الاجتماعية التي كانت تزدري المغّني ولو كان يتغني بفضائل مجتمعه، لكنه لم يعبأ بذلك ومضى في مسيرته مظفراً من نجاح إلى نجاح.. مازجاً موهبته بتراب الوطن وسنابل حقوله، تارة يغني للسودان والنيل والثورة والبلوتاريا والهتاف الاشتراكي، وتارة أخرى يغني للحب والمرأة والحياة والإنسان. كان وردي ملهماً كتب على نفسه الاحتراق والعطاء، رافداً ذائقتنا الفنية لنصف قرن، مموسقاً وجداننا بألحانه وأغنياته التي غمرت وجه الدنيا، عاش محباً لنجوميته التي أسرف في تعاطيها، فكان جسوراً مقداماً حراً طليقاً، فناله ما ينال كل صاحب غاية من محن، فقاسمت السجون حريته، ووزعت المنافي حنينه إلى وطنه، وأهاض المرض من حيويته، ثم رحل ذاك الرحيل المفجع المدوي.. لو كانت السنين تحسب عدداً.. فالحياة العريضة التي عاشها وردي والمشوار الطويل الذي بدأه من مغنٍ صغير في صواردة إلى فنان إفريقيا الأول. ما بين الاثنين من نضال وطني وعبقرية فنية.. ما بين الاثنين من ظلام السجون وفضاء المنافي.. ما بين الاثنين من دخوله للإذاعة السودانية لاختبار صوته وخروجه مصنفاً صوته بالدرجة الأولى.. ما بين الاثنين من علي عبد اللطيف وشهيدنا القرشي.. كل هذه الحياة الحافلة بالعطاء الثر والإبداع المتواصل تعطي الرجل ألف عام ويزيد. نعم رحلت كما يرحل العظماء.. لأنك أضفت شيئاً لتاريخ السودان الفني الحديث، وإذا عُرف غناء العشرينيات بالحقيبة فعصرك سنطلق عليه «الحقبة الوردية».. كيف لا ونحن كلما نسمع غناءك ينفذ إلى قلوبنا لأننا نشعر بأنه فيه حفنة من تراب بلادنا ممزوجاً بالدم والدموع لبطولات رجالها.. نغني في الغربة عندما يجتاحنا الحنين للوطن «الطير المهاجر».. نغني للثورة عندما نفتقد روح النضال «بسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني» نغني لأحلامنا «مكان السجن مستشفى مكان الطلقة عصفورة تحلق فوق نافورة». ونغني للوطن «في حضرة جلالك يطيب الجلوس مهذب أمامك يكون الكلام». ونغني ونهدهد بألحانه خلوة الليل والمحبة حين تغمرنا رجفة الشوق «بتطلعي أنتِ من غابات ومن وديان ومني أنا» و«يا الفرهدتِ فرح جوايا أنا جملتك بألواني». هذا ما صنعه وردي للسودان.. تغني بتاريخه وبطولاته وإرثه وإنسانه من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه. وفي ذات مساء محزون و «من غير ميعاد».. همس وردي في آذاننا قائلاً: «قلت أرحل».