تبلغ مساحة مدينة برلين حوالى 900 كلم2، وهي مدينة قد تأسست نتيجة ضم عدة قرى وبلدات، وقالت احدى الشابات الالمانيات في حديثها معنا، انه بالكاد يوجد «برلينيون أصلاء» اذ ان رقم «3» ملايين مواطن الآن وهم قوام المدينة يعتبرون من القادمين اليها من مناطق مختلفة داخل او خارج المانيا.. وبالفعل فإن السيدة «ريان» في مكتب فريدريتش بالخرطوم كانت قد حدثتني انها في قراءتها للتاريخ الهولندي اي تاريخ موطنها قد لاحظت ان التاريخ الاوربي ظل مليئاً بحركة النزوح والحروب والاضطرابات لأسباب سياسية ودينية ومذهبية، وان أوربا قد وصلت الى ما وصلت اليه الآن من استقرار بعد تاريخ طويل من المعاناة.. وهنالك مقولة منسوبة الى السيد فريدريتش ايبرت الرئيس الالماني الاسبق، مفادها: «إذا كان في ألمانيا اليوم ديمقراطية صحيحة وحيوية فربما لا تستمر إلى الأبد، ولذلك يجب دعمها للاستمرار يومياً». وبالعودة إلى برلين ذات ال «3» ملايين نسمة وباعتبارها من اصغر العواصم الاوروبية سكانا مقارنة بلندن او باريس وغيرها، إلا أن «3» ملايين سائح يزورون المدينة سنويا، حسبما قال المرشد السياحي الذي طاف بنا حول معالم المدينة.. كما أن 35% من مساحتها تغطيها الغابات أو البحيرات والمجاري المائية التي تعتبر من معالمها الباطنية، وحديقة الحيوانات تقع ضمن نطاق إحدى الغابات التي تتوسط المدينة بامتداد مئات الأفدنة.. وملاحظة أخرى مهمة هي وجود عدد من المتاحف الأثرية في منطقة تسمى ب «جزيرة المتاحف».. التي تقع بين نهرين، ومن ضمنها متحف للحضارة الإسلامية، ومتحف بوذي ...الخ، ففي ألمانيا.. الرب واحد وتتعدد الطرق إليه!! رانيزبيرج: بداية ونهاية: احد المشاركين سأل المهندس يورك مولر مسؤول تخطيط المشروعات والتنسيق والاعلام في مفاعل رانيزبيرج للطاقة النووية عن شعوره ومشاعر العاملين في المفاعل، إذ تحولوا من بناة أو مشغلين للمفاعل إلى «مهدمين» او «مطفئين» له.. فاجاب بابتسامة واثقة، إن التجربة كانت تحدياً حقيقياً لهم، إذ أن قرار إطفاء المحطة وتفكيكها لم تسبقه تجربة عملية سابقة، ولذلك فإن هذا التحدي قد جعل العاملين يقبلون على عملهم الجديد بروح عالية وتحدٍ عظيم.. حتى باتوا اليوم من أكبر الخبراء في العالم في مجال تفكيك المفاعلات النووية، وهذه تجربة وخبرة جديدة دون شك. مفاعل رانيزبيرج بدأ العمل في انشائه في عام 1955م، واكتمل في عام 1966م، وعقب توقيع اتفاقية الوحدة الألمانية مباشرة في 1989م تم إيقافه عن العمل وبدأ تفكيكه منذ اواسط التسعينيات، بدءاً بالاجزاء الابعد حتى جسم المفاعل نفسه، والآن من داخل غرفة التحكم في المحطة النووية يمكن ملاحظة عشرات الأزرار التي تمت تغطيتها بورقة بيضاء دلالة على توقف نبض الجزء الذي كانت تتحكم تلك الأزرار في عمله. وما بقي نابضا بالحياة وهو فقط مزودات الكهرباء التي صارت هي الأخرى تأتي من الخارج بعد أن كانت محطة التحكم ترسلها إلى الخارج. إن أعمال التفكيك قد طرحت تحديات تقنية هائلة، وبالمثابرة والتجربة والتروي تم التغلب على معظمها، لتبقى فقط مهمة إيجاد مكب نهائي للنفايات النووية في ظل رفض مطرد من جانب البلديات والولايات الألمانية لدفن تلك النفايات داخل أراضيها. حادثة تسرب «ماء ملوث» كانت واحدة من أبرز الحوادث التي شهدها المفاعل المذكور أثناء فترة عمله، وأمكن التغلب على ذلك التسرب بعد عمل تقاني شاق وتكلفة عالية.. أما مشكلة «الأنقاض الملوثة بالإشعاعات» فتبقى من ضمن التحديات المتبقية.. هكذا أشار السيد مولر. البوندستاجح.. سياحة سياسية راشدة: أمام مبنى ذي قبة زجاجية عملاقة كان علينا إخراج جوازات السفر هنا معبر الدخول الى مباني البرلمان الألماني البوندستاج حيث المعمل غير النووي لاتخاذ القرار التشريعي في بلد ديمقراطي متجدد وحيوي مزدهر ومتقدم. مقاعد البرلمان المنتخب بالطبع حوالى «600» مقعد، تعبر عن ممثلي الشعب الألماني في مختلف ولاياته، إضافة إلى ممثلين للولايات تحق لهم المشاركة في النقاش دون الحق في التصويت، مثلهم مثل أعضاء الحكومة الذين خصصت لهم مقاعد على يمين المنصة، ولا يحق لعضو الحكومة المشاركة في التصويت إلا إذا كان عضواً منتخباً في البرلمان.. كما أن دخول قاعة النواب غير مسموح به إلا للفئات المذكورة أعلاه، ويمكن للزوار أو الضيوف الدخول في وقت معين برفقة رئيس البرلمان فقط.. وهناك عدة طرق للتصويت، أطرفها طريقة الخروج من القاعة والدخول إليها عبر بوابات محددة تضم الخيارات الثلاثة: موافق، معترض، ممتنع. وقبة البرلمان تشكل رسماً فنياً ومعمارياً راقياً.. في توفر الطاقة اللازمة للتبريد والتدفئة والاضاءة لقاعة النواب.. وكثيراً ما تكون جلسات النقاش علنية ومعروضة امام الشعب ليعرف ناخبو كل دائرة ما اداه ممثلهم خلال فترة تمثيله لهم.. كما أن مخصصات النائب البرلماني تبلغ حوالى «7» آلاف يورو.. ولكن بعد خصم الضرائب ورسم «الحزب» وغيرها من استقطاعات لا تبقى منها سوى ما يفوق «3» آلاف يورو بقليل!!، وهذا المرتب يساوي مرتب اي مدير لمدرسة في ألمانيا.. ويجوز للنائب البرلماني ممارسة عمله الخاص في جزء محدد من الوقت بعد موافقة رئيس البرلمان!! على أن يتم تقديم كشف حساب بما يتقاضاه خلال تلك الساعات المحددة من عمله الخاص، وحوالى ثلثي اعضاء البرلمان الآن لديهم اعمالهم ومهنهم التي يجب ألا تتعارض مع عملهم الأساسي وهو تمثيل مواطنيهم!! المستشارية والرئاسة في نظام ديمقراطي: المستشارة ميركل تسكن في شقة مكونة من «3» غرف في حي يجاور جزيرة المتاحف، ويقف على بوابة الشقة «شرطيان» فقط!! أما مبنى المستشارية فيضم مكاتب العمل واستراحة صغيرة لم يكن بها «حمام دش» حتى قام المستشار السابق شرويدر بطلب إدخال «دش» للحمام فتم التصديق له بذلك!! كما لا يوجد اي قاطن في مبنى المستشارية عدا «البواب» الذي خصصت له غرفة صغيرة في طرف الباب!! أما رئيس الدولة فمقر عمله في القصر الرئاسي، وفي أثناء وجودنا في برلين تقدم الرئيس باستقالته حتى يفسح المجال أمام تحقيقات النيابة حول تهم تتعلق بشبهات «رشوة» تلقاها، وشنت الصحافة الالمانية الحرة هجوماً شرساً على الرئيس، وكيف ان الحصانة تعرقل اجراءات التحقيق معه!! ودار نقاش حول «كيف يستقيم في بلد كألمانيا تعتبر في عداد الصفوف الاولى في العالم المتقدم أن يكون رئيسها «مشتبهاً فيه»؟!! ومطلوب للتحقيق في قضايا مهمة.. فاستقال الرئيس حتى يفسح المجال للقضاء وإجراءات التحقيق وصولا لمحطة تبرئته أو ادانته!! شكرا أعضاء سفارتنا ببرلين: الأستاذة الزميلة سمية الهادي السكرتيرة الإعلامية بسفارتنا ببرلين علمت بوجودنا في برلين، فاتصلت على الفندق الذي نقيم به وتركت لنا رسالة، ثم حضرت بنفسها لمقر فريدريش ايبرت حيث انعقاد جلسات العمل، وتعرفت علينا، ثم دعتنا لحفل عشاء في مطعم تركي، حضره من أعضاء السفارة الإخوان كرم ورضوان والأخ الزميل الصحافي نائب السفير خالد موسى، والأخ زهير الكارب زوج الأستاذة سمية، ولن ننسى الأخ سانتو ابن جوبا/ الخرطومي، حيث تتمثل في أسرته مأساة الانفصال السوداني التي يمكن تدارك آثارها الإنسانية بمراعاة تواصل الارحام، والأسر المشتركة. وفي العشاء دارت حوارات عفوية بين سودانيين شاءت تصاريف السياسة في بلادنا أن تجعل بينهم أقداراً مختلفة ومتفاوتة. قلت للأخ خالد لماذا تعتبر الحكومة أو حزبها الحاكم أن كل معارض لها عدواً للوطن؟ ولماذا تضع المعارضة كل حكومي في صف عدو الوطن؟ فمتى نتعلم أن المعارض وإن كان مخطئا في تقديره إلا أنه يسعى لخير ومصلحة الوطن، وكذلك في الشق الحكومي لا يمكن نزع رداء الوطن جملة واحدة من كل من تلبس بالحكومة، فإن أخطأ فيجب تقويمه ومحاسبته، وإن نجح حق في تقويمه الثناء، عموماً نأمل في يوم غدٍ أن يكون أكثر إشراقاً.. ثم لا ننسى في هذه السانحة أن نشير إلى السيدة الأخت «سارة» تلك السودانية السمراء بنت البلد الأصيلة، وكذا الألمانية التي تجيد اللغة العربية «أوتا» فكلتاهما ممن أحسنا وفادتنا وآنسا غربة العالم الأول.. فلهما التحية والشكر.. السلام الأخضر.. «المية تكدِّب الغطاس»: من الطرائف التي أوردها ممثلا حركة السلام الاخضر في المؤتمر، حادثة تسلل بضعة أفراد من حركتهم إلى قبة أحد المفاعلات النووية البريطانية ورسما بالبوهية شعارات الحركة المناهضة للطاقة النووية، ولما أصبح الصبح وحضر أمن المفاعل كانت تعليقاتهم أن الحمد لله هؤلاء من حركة السلام الأخضر ولم يكونوا من حملة المتفجرات.. ووعدت السلطات بتشديد الأمن في المفاعلات، ولكن كانت المفاجأة أن بعض أعضاء الحركة تمكنوا من التسلل مرة أخرى لذات المفاعل وفي معيتهم «40» كيلوجراماً من البوهيات ورسموا شعاراتهم على قبة المفاعل في تحدٍ كبير لسلامة وأمن تلك المنشآت التي يمكن أن تصبح عرضة للتخريب أو التفجير، وما يقود إليه أي فعل مثل ذلك من آثار مدمرة!! وبعد: هل صحيح أن السودان يتجه لإنشاء مفاعل نووي للأغراض المدنية؟ أحد المحاضرين كان قد أشار إلى أن بعض الدول تعتبر إنشاء مفاعل نووي من ضرورات الوجاهة الدولية... عليه ربما كان التفكير ثم التفكير مرات ومرات في جدوى مثل تلك المفاعلات مقابل أخطارها المؤكدة، مدعاة لبذل الجهود وإنفاق الأموال للاستثمار في مجال الطاقات المتجددة، فهي ستصبح في القريب العاجل، طاقة الإنسان في سعيه نحو الرقي والحفاظ على الحياة. }{}