يستهدف الدراميون في أعمالهم دائماً الانتصار لقيم الخير والحق والجمال، ويستخدمون خيالهم الخصب في خلق دائرة الصراع بين الحق والباطل، ومن خلال هذه الدائرة يتم تفصيل الأدوار وفق مقتضيات القصة التي تجسد سلوكاً إنسانياً يراد إثباته أو نفيه، فتبقى للبعض من خلال القصة المعروضة أدوار عظيمة يؤدونها بمقدرات عالية تدمي أيدي (الفراجة) بالتصفيق الحار، وتأتي بعض الأدوار باردة لا تثير أي انفعال ولا تخلق الدهشة في المشاهدين. وثمة مشابهة بين ما يحدثه الدراميون ويبدعونه على خشبة المسرح، وبين الوتيرة التي تسير بها حياتنا اليومية.. وتأتي المشابهة من أن خشبة المسرح تعكس تفاصيل الحراك الاجتماعي مدحاً أو ذماً. والحياة تسير هكذا بتقلباتها المعهودة، وتخلق مواقف حياتية غاية في التعقيد، وهنا يأتي (شكل التعاطي) مع المواقف الحياتية فيصلاً في التمييز بين معادن الناس وإراداتهم، فبعض الناس تبقى إرادتهم ضعيفة بدليل أنهم يتنازلون عن خياراتهم في أول عاصفة تهب عليهم. والبعض الآخر له القدرة على تجاوز الصعاب والمتاريس بل الانتصار عليها.. وهذه القدرة والصلابة والمرونة أحياناً في التعاطي هي التي تفرز القادة والرموز في كل مجالات الحياة من أدنى السلم الاجتماعي في الفريق والقرية، إلى أعلى مستويات الوطن وسوحه الفسيحة. من هذه الزوايا اطلعت على سيرة الفنان الراحل محمد وردي، السيرة التي سارت بها الركبان، وفي قراءة هذه السيرة لا بد من استصحاب مؤثرات حقيقية خلقت هذه الشخصية المتفردة، واولى هذه المؤثرات هي البيئة وخلفيات النشأة الاجتماعية، فالبيئة وأسلوب حياة الناس فيها هي التي خلقت في الفنان وردي الصدق مع النفس أولاً ومع الآخرين ثانياً. فالمجتمع النوبي الذي جاء منه وردي في صواردة وغيرها، مجتمع تتجسد فيه درجة عالية من المصداقية ووضوح الرؤية، مجتمع عافاه الله من الكذب والفهلوة والتملق، ومن هذه البيئة المحتشدة بقيم الصدق والأمانة قرأ وردي ذاته التي تصالح معها وحدد فيها خياراته وعرف ميوله، بل حدد أهدافه ومشى عليها بعزيمة وقوة، ورؤيته كانت واضحة في تحديد ماذا يريد من هذه الحياة، وأي الدروب يجب أن يسلك، وفي سبيل أهدافه لم تثنه منقصات الحياة من سجون وتشرد ونفي خارج إطار الوطن لسنوات طويلة. وجاء إبداعه بقدر قامة الوطن الذي انتمى إليه واحترق فيه شوقاً وحباً. وفي تفاصيل سيرة الفنان وردي جاء الصراع تلقائياً وليس متقمصاً أو تقليداً. وبدأ هذا الصراع باكراً، فتربى يتيماً في كنف أسرته الكبيرة، ثم بدأ ايمانه العميق بفنه عندما رفض الالتحاق بالأزهر، وكانت تلك رغبة جده الذي سافر إليه في القاهرة، وكان في قمة الصدق لما تقدم باستقالته من مهنة التدريس المقدسة، وقال في ذلك بالحرف الواحد فقدت شخصية المعلم المنوط بها تربية الأجيال. هكذا عاش الرجل صادقاً ومات صادقاً ولم يحد عما أمن به. ففي حياته عظات وعبر ودروس مستفادة.. ويبقى الوطن.