إن من أفضل الأعمال عند الله كلمة حق عند سلطان جائر، ولعل هذا ما دفع العظماء على مر التاريخ لأن يقفوا مواقف مغايرة للمعهود، ولذلك خلدت تلك المواقف وما خلدوا إلا في قلوب وعقول الأجيال، ولذلك نكرر القول هنا إن الشعب السوداني الصابر لم يقف وقفته التي وقفها مع القوات المسلحة السودانية إلا لأنه شعب يفهم جيداً معاني الوطنية ويفرق بين المواقف، فالحكومة الحالية لا تعنيه في شيء لأنه جرب أفعالها، ولكن تراب الوطن يمثل له كل شيء، وهو مازال يتحرق لتحرير كافة البقاع المنسية التي لم تفرد لها الحكومة نفرة ولا استنفاراً، ومن المهم جداً أن تعي القيادة العسكرية هذه الحيثية وتعمل على تدارسها حمايةً للروح الوطنية من الذوبان وموات الإرادة السياسية، ومن الواضح أن بلادنا الحبيبة تمر هذه الأيام بأحوال عصيبة فرضتها عوامل كثيرة بعضها معلوم وبعضها يتوارى خلف الغيوم، أما المعلوم منها بالضرورة فهو ضعف حكومة السودان على العالم أجمع، بحيث يطلب منها الرئيس الامريكي باراك أوباما أن تتحلى بالشجاعة الكافية لعقد قمة بين الرئيس البشير والرئيس سلفا كير لإنهاء الملفات العالقة والتوقيع على اتفاقية تنهي كافة أشكال النزاعات المسلحة وتحفظ ما تبقى من موارد البلدين لتيسير الخدمات لمواطني البلدين، وقال أوباما إن شعبي السودان وجنوب السودان فقدا العديد من ابنائهما في حروب عبثية لا طائل منها، وقد حان الوقت لتغيير كل ذلك. إن هوان حكومة السودان على الولاياتالمتحدةالامريكية جعل الأخيرة ترسل النصائح دون أن تهنئ الخرطوم على استرداد هجليج، وهي على ما يبدو رسالة خفية مفادها إننا بصفتنا حكومة أميركية نعلم أن سبب الحرب هو تحريض الجماعات التي ترفض جلوس رئيسي البلدين لمعالجة القضايا التي لم تعالجها جولات التفاوض العبثية.. لقد ركز خطاب الرئيس الامريكي على ضرورة لقاء الرئيسين رغم علمه بالشكوك التي تم ترويجها عن الغدر الذي ينتظر رئيسنا حين مغادرته مدينة جوبا، وبرأيي أن المسألة فعلاً تحتاج إلى شجاعة لم تكن تنقص الرئيس البشير، ولكن الأصوات المعارضة كانت أقوى من رغبة الطرفين لعقد قمة، ولذلك فشلت المفاوضات وعلت نبرة التصعيد العسكري. وسبب ضعف وهوان الحكومة هو عدم قدرتها على الالتزام بخط واضح في مفاوضاتها مع الحركة الشعبية الحاكمة في دولة جنوب السودان، فتارة يوقع نافذون في الحكومة مع الجنوبيين اتفاقاً وقبل أن يجف مداد حبره يقوم نافذون آخرون بتحريض رئاسة الجمهورية علي إلغاء ذلك الاتفاق، الأمر الذي يظهر الحكومة أمام الوسطاء والطرف الآخر بمظهر الناقض للاتفاقات والمواثيق، ثم يعود الطرفان للمفاوضات مرة أخرى، وحينما يتناقشان حول أمور بعينها دون التوقيع عليها تتزايد حملات التشكيك من قبل مجموعات الضغط العنصرية، ويتم نسف الخطوات على خلفية التشكيك في النوايا، ثم تندلع الحرب والأعمال العسكرية، ثم يقول البعض إنه لا مفر من التفاوض والحوار إلا بالتفاوض والحوار، وهكذا تستمر المسألة، وفي ذات الأثناء يتهالك اقتصادنا المنهك تحت تأثير ضربات الفساد والمفسدين، ممن لم تفلح مفوضية مكافحة الفساد في الحد من إفسادهم حتى تاريخه. ومن الواضح أن السبب يعود إلى اختلاط الأوراق وصعوبة الفصل بين العام والخاص. من أجل ذلك يتوجب على الرئيس البشير بعد استرجاع القوات المسلحة لهجليج، الإعلان عن بدء عمليات الجهاد الأكبر ضد الفساد والمفسدين، وليبدأ بالأقرب فالأقرب، فالأقربون أولى بالمعروف، ومن المعروف رد المظالم واسترداد الحق العام المسلوب، والفصل بين السلطات، والانتصاف لمفصولي الخدمة المدنية وضحايا الصالح العام، وتعزيز الرقابة على المال العام مع استرداد ما نُهب منه على مر السنوات، فذلك هو الجهاد الأكبر الذي تتقاصر دونه كافة المهمات العسكرية والمدنية.