سيتذكر الدكتور التيجاني سيسي ذلك المساء وهو يلقي النظر على جموع الدارفوريين وهم يتبادلون التهانئ بمناسبة توقيع الاتفاق النهائي للسلام بدارفور، بعد مفاوضات استمرت اكثر من عامين بمدينة الدوحة القطرية، كما سيتذكر بهو ذلك الفندق الفخيم حيث يقيم، ولقاءاته مع الوفود التي قدمت من فجاج الارض ومن قرى دارفور البعيدة ومن الفرقان والدمر ومن المدن واشباه المدن ومعسكرات النزوح بالداخل ومخيمات اللجوء بالخارج، وآخرين من شتات دول المهجر كانوا حضوراً، كما لا ينسى خطابه الذي القاه في الحفل الختامي الذي نال استحسان الجميع، وسيذكر الاستاذ الجامعي والعالم الحصيف عباراته جيداً وسط حضور سوداني كثيف ومجتمع دولي مهتم ورعاية قطرية فائقة، فقد كان خطابه صادقاً مليئاً بالأمل مستبطناً شيئاً من الخوف الخفي مما ستؤول اليه امور البلاد كلها، ناهيك عن دارفور، اذا لم تسر الامور في اتجاه تنفيذ ما اتفقنا عليه.. انها شهادة واللهم اشهد، وانا اول الشاهدين، فقد كان خطاباً فوق الوصف أظهر فيه الدكتور مقدرات فوق العادة، واكد انه رجل دولة مسؤول مدرك لما كان وما سيكون. آه لقد شيبتنا دارفور واخواتها، فكلما نقول «قربت ليك» نعود من الياء للألف منذ ما يقارب العقد من الزمان، نبحث عن شيء يبدو في الاصل غير موجود اسمه سلام دارفور.. وذهبنا عند مغرب الشمس في أبوجا وقفلنا شرقا عند مطلع الشمس في دوحة العرب الفيحاء، فوجدناه ولم نجده وكأن السلام في دارفور صار معلقاً بين السماء والارض، وصرنا محلقين من بلد إلى بلد وحالنا كحال الشاعر الموريتاني الذي يقول: بغاني حاسدي فلم يجدني فلما لم يجدني شاء تركي بغاني في العراق فلم يجدني فصار محلقاً في الدنماركي والشعراء يتبعهم الغاوون في كل وادٍ يهيمون ويقولون ما لا يفعلون، انه حالنا وكبر مقتاً عند الله، فلماذا نقول قولاً ولا نفعل شيئاً، وكأن اتفاقيات السلام المحمولة جوا لا تستقر على الارض ابتداءً من اديس ابابا الاولى، ابوجا، القاهرة، نيفاشا، طرابلس، اسمرا، جيبوبي وكل عواصم الدول. وصارت الاتفاقيات تحمل الينا الكثير من الشك واليقين، والكثير من الآمال والخيبات، والكثير من التحولات والمصائب والحنين، وصرنا نعيش بين البهجة والخيبة. نبهت في رسالتي الاولى للدكتور سيسي قبل عودته واخوته، إلى خوفي من الشماتة، وان تلحق الدوحة اخواتها ولا اريد التكرار، فقد راج منذ ايام ان اتفاقية الدوحة ليست على ما يرام وانها تعاني حالة لم تشخص بعد، ولكن الكشف المبكر للداء يكفي الناس معاناة العلاج الغالي وقبل فوات الاوان، أو كما قال أستاذنا محجوب فضل وهو من أصدقاء سلام دارفور بل هو من دارفور و «لكن المفروض»، فقد ذكر في عموده المقروء أن الحكومة محتاجة الى وحدة ذاكرة مركزية، ومحتاجة الى «شغل وشغيل» لتنفيذ الاتفاق ودق ناقوس الخطر. وما اشبه الليلة بالبارحة، فهي نفس الاسباب التي ادت الى اجهاض اتفاقية ابوجا، فقد كان مني ومجموعته يشكون مر الشكوى من البطء الذي لازم ملفي الترتيبات الامنية والثروة، وان نسبة التنفيذ في هذين الملفين كانت ضعيفة جداً مقارنة بالملفات الاخرى، الى ان اختار لنفسه شكلاً مغايراً من أشكال الاحتجاج، فقد ذهب مغاضبا الى كرنوي وما حولها يطلق التصريحات في الهواء الطلق، لأن الناس في الخرطوم لا يسمعون، واذا سمعوا لا يفهمون، واذا فهموا لا يعملون. وبعد وساطات و«اخوي واخوك» توصل الناس الى ما عرف بمصفوفة الفاشر التي اعادت مني الى الخرطوم، وهي جداول تنفيذ محددة بتواريخ وتكاليف لجهات لإكمال تنفيذ ما تبقى من بنود ابوجا، وكانت بمثابة خريطة طريق، ولو صدقت النوايا لأدت المصفوفة غرضها، فقد كان لرجل مثل المهندس الحاج عطا المنان والدكتور عبد الرحمن الخضر قبول واسع وسط المجموعات الدارفورية بحكم عملهما المبكر بدارفور، وكان لوزارة المالية فهم وتفسير مغاير تماماً لما لدى حركة مني، فالمالية تعرف التفسيرات العملية للنصوص وليس النص الحرفي، وبحكم أن عملها هو ولايتها على المال العام، الى أن تم تكوين لجنة مشتركة من المالية والحركة والمؤتمر الوطني للمتابعة والتنفيذ، ولكن اتت الرياح بما لا تشتهي سفننا، فالخلاف كل الخلاف حول المبالغ التي تودع في الحسابات وحرفية اللوائح والاجراءات، والقادمون الجدد لا يريدون التعقيدات بالرغم من أنهم لا يعترضون على سلامة الاجراءات، ولكن نسبة للضغوط التي تمارس عليهم يرون ان الطرف الآخر يماطل ولا يريد الا المعاكسة، وبنفس القدر كانت الامور في ملف الترتيبات الامنية اكثر تعقيداً، وبالكاد تكون الثقة مفقودة تماماً، الى ان غادر مني شارع القصر وشارع البلدية. أما الدكتور التيجاني سيسي فأراه اليوم يكتم غضبه وعدم رضائه عن سير التنفيذ لاتفاقية بنى عليها كل آماله وآمال شعبه، لذا اختار طريقاً غير طريق مني للتعبير، فقد رأى ان يبلغ احتجاجه لممثلي الشعب حتى يكونوا على بينة من الامر، عسى ولعل يستطيع ايصال رسائله عبرهم، والقصة يا إخوان ليس في مبلغ مئتي مليون دولار الذي تسبب في انفضاض سامر ابوجا، ولأن مشكلة دارفور لا تحل بالفلوس وحدها ولكن بالجدية وحسن النية، فما كان ينبغي لرجل مثل الدكتور التيجاني سيسي الاستنجاد بممثلي الشعب، وحفيد الخليفة عبد الله التعايشي على باب بيت مال المسلمين، وما كان له والدكتور الحاج آدم نائب رئيس الجمهورية وجيش من الدستوريين الدارفوريين في مواقع تنفيذ القرار، ماذا تريدون من الحكومة يا أبناء دارفور وقد وضع مفتاح المال بين يديكم وسلطات الوزارات بأقلامكم. وكان الأجدر بهؤلاء الجلوس وحل مشكلات السلطة بجرة قلم، بدلاً من الشكوى للآخرين، واذا كانوا لا يستطيعون ألم تكن الاستقالة أرحم من مواجهة شعب دارفور الذي ينتظر منكم الكثير، وجاء في الخبر أن أبو عبيدة دج وقع على مبلغ «200» مليون دولار لتنفيذ طرق بولايات الشرق، وأن الرئيس الامريكي اوباما قد صادق على مبلغ «200» مليون دولار للسلطة الفلسطينية وليست «الاقليمية»، بالرغم من اعتراض الكونغرس، لأنه وحسب رده فقد قال إنه حال فشل السلطة الفلسطينية سوف تدخل المنطقة في توترات. بالله عليكم وردوها في حساب السلطة وراقبوها غداً، فسوف يهبط سعر الدولار، وستنهال علينا دولارات الآخرين، اكسروا الجمود بتكوين لجنة مصفوفة الدوحة يكون وزير المالية رئيساً لها، وسوف تجدونها أكثر عملية من اللجان العليا التي تتسم حركتها بالبطء، ورجل مفكر مثل الدكتور أمين حسن عمر ألم يكن من الأجدر أن يملأ هذا الفراغ والخواء الفكري العريض في السودان، بدلاً من الزج به في تعقيدات القضايا الدارفورية، او كما سماها هو «بالدارفوريات»، وهو يستحق الاحترام، ولكن حسب خبرتي أرى ان تنفيذ الاتفاق على الارض يحتاج الى اناس لهم سابق خبرة بدارفور.. فرجل مثل المهندس الحاج عطا المنان يستطيع إحداث اختراق وتحريك حالات الجمود اكثر من غيره. والآخرون يتهمون الحكومة على الدوام بأن لديها سجلاً حافلاً وخبرة طويلة من عدم الالتزام بالاتفاقيات، مما يبرر للآخرين أن يعودوا من حيث أتوا، وما تحالف كاودا عنا ببعيد، فهم يفرحون اليوم اذا علموا ان الدوحة في الطريق للحاق بأخواتها. وعلينا جميعاً نحن أهل المصلحة والشأن وأهل السودان، إعلان النفرة لتنفيذ اتفاقية الدوحة، ويكون في المقدمة أبناء دارفور في الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات كل في ما يليه، وعلى رأس هؤلاء جميعاً وزير المالية علي محمود، حتى لا يقول الدكتور التيجاني سيسي: «لقد نصرني آل محمود في الدوحة حين خذلني علي محمود في الخرطوم». والله ولي التوفيق.