**هل كان ما تحقق من تقارب بين رئيسي طرفي التفاوض وراء تأجيل حسم عدد من القضايا..؟ **هل كان رهان الحزب الحاكم على تأسيس شراكة مع الحركة الشعبية وراء توجهات مواقفه حيال القضايا..؟ يعتبر كتاب «إندلاع السلام» لهيلدا جونسون وزيرة التنمية الدولية للنرويج سابقامرجعا أساسيا لما وراء كواليس مفاوضات نيفاشا التي إمتدت لستة عشرة شهرا ونتجّت اتفاقية «السلام الشامل». وقبلها أصدر الوسيط الكيني الجنرال «سيمبويا» كتابه الذي تناول فيه دوره ورؤيته.. ولكن ليس هنالك ثمة جهد من المشارك السوداني ولو على مستوى تناول الكتابة الاعلامية. وربما كانت المظنة ان يكون ذلك على يد المفاوض الجنوبي «جون قرنق»،والذي ربما لو كتب له البقاء لوفر على جمهور الناس المعنيين في السودان شمالا وجنوبا جهد ومعاناة تفسير وفهم الركائز والمنطلقات التي إعتمدها طرفا التفاوض، ولربما كان الناس قد وقفوا على المقاصد السياسية للإتفاقية وعلى ما كان في مؤخرة رأس العرّابين السودانيين من رؤية للسبل والإمكانات التي كانا يظنانها ويريانها سالكة ومتوفرة لتنفيذ بنود الاتفاقية على أرض الواقع. ولكن الأقدار أخذت أحد العرّابين ومن ثمّ إضّطرت الثاني لإلتزام الصمت في ظل الأجواء التي تغلبت على الساحة السياسية.. فقد كان صعبا على خلفاء «جون قرنق» أن يفهموا الشفرة التي كانت وراء إتفاق العرّابين، كما كان صعبا على العرّاب الآخر الباقي تفسير الشفرة لأهله في الحزب والحكومة في ظل سهام الإتهام بالتقصير والتهاون والتنازل التي كانت تناوشه من قبل أولئك المشفقين،ربما بسبب عدم تمكنهم من إدراك تلك المقاصد بحكم مستوى مواقعهم السياسية والرسمية،ومن جانب آخر تلك المواجهات من قبل أولئك الذين ربما كانوا مدركين ولكن غلبت عليهم تكتيكات حسم المنافسة السياسية مع الرجل. فقد كان العرّاب الحكومي في حاجة لسند من العرّاب الذي رحل ليعينه في تفسير الشفرة بالقول والفعل.فقد كان العرّاب الحكومي يعوّل كثيرا على أن يؤديّ الفعل والتنفيذ دورا فاعلا في أن يستوعب الجمهور في شمال وجنوب السودان مقاصد الإتفاقية من خلال تذوق ثمراتها بحسب ظنه..فعندما صارت الأمور إلى ملاحقة وتسابق بين حسم عدد من القضايا والموعد الذي كان قد تحدد للتوقيع النهائي،نرى الكاتبة تنسب إلى المفاوض الحكومي تعبير» إذا تمكنّا من بناء الثقة فيما بيننا فسيكون من الممكن تأجيل بعض القضايا للفترة الإنتقالية». فقد تحقق بين يدي وأثناء مفاوضات «نيفاشا»تفاهم فكري وربما وجداني وتقارب لكيمياء الشخصية بين كل من رئيس الجانب الحكومي ورئيس الحركة الشعبية. ولكن بقدر ما كان ذلك التقارب عنصرا فاعلا في التغلب على عقبات التفاوض بقدر ما كان ذلك العنصر سالبا ومتوّها في دروب تنفيذ الإتفاقية عندما رحل واحد من العرّابين فجأة حاملا معه النسخة الثانية والوحيدة من المفتاح المكمّل لفك شفرة الإتفاقية عند دخولها حيز التنفيذ.وبالطبع ما كان في مقدور العرّاب الحكومي إستدعاء العرّاب الدولي ليعينه في تفسير «شفرة نيفاشا» للمعنيين بالتنفيذ في السودان شمالا وجنوبا. ذلك العرّاب الدولي الذي كان يلعب دور المقارب لوجهات النظر بمختلف الوسائل،كما كان عنصر تفكيك لفيوز التفاوض عندما يلتحم بين الطرفين، مستخدما في ذلك كل منطق وحجة وحيلة بما في ذلك إستخدام البدائل اللفظية مع الإحتفاظ بالمضمون لأحد الطرفين وتسهيل القراءة والقبول النفسي على الآخر. ويمكن تبين ملامح من ذلك مما ورد في كتاب العرّاب النرويجية «هيلدا جونسون» فيما أوردته من تفاصيل عن حلها لإشكالين أساسيين بإستبدال مصطلح « إنسحاب» القوات الحكومية إلى ما وراء خط عرض 13 ب»إعادة إنتشار القوات» وإستبدال «إستفتاء « سكان كل من جنوب النيل الأورق وجبال النوبة ب «المشورة الشعبية».. ولئن كانت ظروف وأسباب طبيعية وعملية قد حالت دون تمكين العرّاب الحكومي من الإستعانة بالشاهد والعرّاب الدولي لإعانته في تحمّل مسئولية شرح شفرة الإتفاقية لأهله في السودان شمالا وجنوبا، فإن ذاك العرّاب من تلقاء نفسها وبحكم ثقافة أهلها قد تطوعت بكشف طرف من مفتاح للشفرة بإصدارها كتابها الذي رأت ان تطلق عليه إسما دراميا «إندلاع السلام»، والذي ربما جاء صدوره متأخرا وقد صار إستفتاء تقرير مصير الجنوب على الأبواب، مما جعل من تلك الشهادة أقرب للمذكرات أو مادة للدراسة السياسية إن لم تكن التاريخية.. ومهما إدعى المرء أن تدخل ذلك العرّاب الدولي مرة أخرى خلال مراحل تنفيذ إتفاقية السلام ربما كان سيساعد طرفي الإتفاقية للتصرف بشكل أكثر مسئولية وإنتباه، إلا ان ذلك العنصر الدولي ربما لم يكن ليمثل عاملا فاعلا في تغييرالمصيرالذي بدأت الإتفاقية تتدحرج إلي هاويته مع اللحظة التي بدأت فيها طائرة واحد من العرّابين تهوي في جبال الأماتونغ..أوردت هيلدا جونسون في كتابها على لسان إحدى النساء في الجنوب ما معناه «إن موت قرنق إشارة على أن الله لا يحبنا وأن أجدادنا لا يقفون في صفنا في هذا الوقت»..! لقد كانت البداية الأولى لتعرف الرجلين، رئيسي جانبي التفاوض السودانيين، على بعضهما نتيجة لطلب من النائب الأول لرئيس جمهورية السودان بإتصال هاتفي في 31 أغسطس2003 إلى وزيرة التنمية الدولية النرويجية هيلدا جونسون بأن «الوقت قد حان للتفاوض على مستوى أعلى».. فقد كان التفاوض الجاري بين ممثلي كل من حكومة السودان والحركة الشعبية في «ناكورو» الكينية قد وصل إلى طريق مسدود وكادت تلك الآمال التي لاحت في «مشاكوس» أن تنهار. وكانت الوزيرة النرويجية في مستوى ما توقع منها النائب الأول، فقد سعت عبر كل الوسائط السياسية ومختلف وسائل الضغط حتى تحقق اللقاء الأول المباشر بين النائب الأول وزعيم الحركة الشعبية في نيفاشا ليمتد بهما وبالسودان إلى ستة عشر شهرا ختمت بتوقيع إتفاقية السلام الشامل بمساندة مكوكية من قبل ممثلة النرويج تلك، حيث صارت»الإيقاد» ضيف شرف مع فاعلية فردية عند الحاجة لممثلها الكيني الجنرال «سيمبويا». توردهيلداجونسون في كتابها «إندلاع السلام» إحدى الشفرات الأساسية لإختصارالمفاوضين الوطنيين لقضايا أساسية وتأجيل التفاصيل لمرحلة التنفيذ. فهي ترى أوإكتشفت بظنها وكذلك «جون قرنق»،بحسب ما أوردته من إشارات على لسان هذا الأخير..» أن المبررات التي دفعت حزب المؤتمرالوطني للمشاركة في المفاوضات هي إقامة شراكة مع الحركة الشعبية من شأنها مساعدته على البقاءعلى قيد الحياة السياسية وتوفير درجة من الشرعية الدولية ،وكذلك يستحق بعض التنازلات،على الرغم من أن تحقيق السلام هو مهم في حد ذاته..وتحقيق سلام مستدام وجذاب كان يعني المزيد من تقاسم الثروة والسلطة»..وتشيرالكاتبة إلى أن هذه الإستراتيجية قد فقدت الإتجاه حينما تولى أمرالشراكة في المرحلة الإنتقالية من تسميهم المتشددين من الطرفين بأسلوب أقرب للمناكفات السياسية الحزبية.. وتشيرالكاتبة إلى أن عنصرإستهداف الشراكة والثقة فيها كعامل منظورلحل القضايا مهما كانت عقدها هو الذي كان وراء طبيعة موقف المفاوض الحكومي حيال مسألة بحساسية منطقة «أبيي»؛فالكاتبة تنسب لرئيس الجانب الحكومي تعبيرا صريحا في هذا الإتجاه بقوله لرئيس الحركةالشعبية أنه ينبغي أن تكون أبيي جزءا من صفقة شاملة،وأن موافقة الجانب الحكومي على مقترح الحل قد جاءت في هذا السياق.. وتقول الكاتبة إنها قد ناقشت مع الحركة الشعبية، بطلب من رئيس التفاوض الحكومي،أمرقيام شراكة سياسية ذات طابع رسمي ولكن قادة الحركة الشعبية كانوا حذرين للغاية..ولعل بعض التعليل وراء ذلك الحذرهوعدم وجود مبدأ المشاركة أصلا في إستراتيجية الحركة،إذ ربما كانت أقرب للإحتياط لإحتمال إضطرارها لتبني خيارالإنفصال. وقد يتضح طرف من ذلك فيما أوردته الكاتبة عن الخطة التي إتبعها قائدها،جون قرنق لتحقيق هدف استراتيجي، ألا وهو إبقاء قواته العسكرية فاعلة خلال الفترة الإنتقالية..فهو كان قد أرسى إبتداء القاعدة الأساسية للتفاوض في بقاء قواته قائمة ومستقلة خلال الفترة الإنتقالية،ومن ثمّ تحركت مفاصل التفاوض وسلكت كل دروب ومنعرجات نقاط الخلاف بقابلية للتوافق في نهاية الأمر،مهما تراءت معقّدة بذاتها أوبتكتيك من أحدالطرفين. فعقب ذلك الإتفاق حول الترتيبات الأمنية الذي حدد وضعية قواتها لم تقم الحركة بإثارة مسألة التكاليف المالية المترتبة على بقاء قوات الحركة مستقلة إلاعند المنحنى الأخير،وقدأضحت المفاوضات واقعة تحت ضغط كل من عنصريتجنّب التراجع وإغراء الإنجاز. فألقت الحركة حينها بالقفاز طالبة بأن تتكفل الميزانية المركزية بتكاليف تلك القوات،وكان ذلك بالطبع أمرا غيرمعقول،توصلت به الحركة إلى تضمين بند صريح بأن»لحكومة الجنوب تسليح تلك القوات سواء من ميزانيتها أوبمساعدات خارجية مع إبلاغ الخرطوم دون ضرورة موافقتها».ولعل تلك الإثارة الإعلامية حول سفينة الأسلحة المختطفة بواسطة القراصنة الصوماليين قبالة السواحل الكينية لم تكن مطلعة على ذلك البند في الإتفاقية.