« هذا الكتاب ممتع غاية الامتاع، وهو بحق إضافة جديدة للاهتمام المتنامى بالسّير وكتابتها وتدوينها ونشرها، وذلك بارتياد مجال جديد غير مجال الشخصيات السياسية والأدبية، وهو قطاع رجال الأعمال والتجارة والصناعة، وهو جانب يكاد أن يكون التوثيق والتدوين والتأريخ فيه مهملاً فى بلادنا». هكذا قدم البروفيسور يوسف فضل لكتاب «الشيخ مصطفى الأمين.. من الغبشة الى هامبرج» الذى أنجزه مؤلفان هما الراحل الدكتور محمد سعيد القدال والدكتور عاطف عبد الرحمن صغيرون، ويتساءل المؤلفان فى صدر الكتاب عن أىّ مدى تجسد سيرة الشيخ مصطفى العصامية فى أنصع صورها؟ فقد بدأ الرجل رحلة عمره ببعض الشىء أو ربما بلا شىء وانتهت بالشىء الكثير.. صارع أمواج الحياة يصرعها وتصرعه، وتمكن من تحقيق إنجازات حياته بالعزم المشوب بالاعتماد على النفس، لذا يرى المؤلفان أن هذه السيرة التى اعترتها سنوات شدة وضيق تخطاها الشيخ بالمبادرة والخيال والجهد هى أنموذج من المهم إبرازه حتى لا تبقى هذه الأجيال تنظر فى دهشة ويأس الى الرأسمالية الطفيلية وهى تفرى جسد المجتمع وتلوك كبده. وسيرة الشيخ مصطفى كما تتبعها المؤلفان تذكرنى برواية شهيرة للكاتب البريطاني جيفرى آرشر عنوانها «كين وآبل » ترصد حياة اثنين من مليارديرات أمريكا هما كين الأمريكى وغريمه آبل المهاجر البولندى الذى فقد أسرته بالكامل وهو صبى يافع إبان الغزو الروسى لبولندا خلال الحرب العالمية الأولى، وتشرد بعد ذلك فى منافى سيبريا وفى تركيا ثم هاجر على سطح مركب الى أمريكا حيث بدأ حياته صبياً عاملاً فى أحد المطاعم، وتنقل فى كثير من المهن الهامشية حتى أصبح أخيراً مالكاً لأضخم سلسلة فنادق فى العالم. وبذات التماثل خرج الشيخ مصطفى الأمين من المتمة غاضباً فى بدايات القرن الماضى ليبطش فى أرض الله وهو لا يملك سوى ريال مجيدى «عشرين قرشاً»، فخرج من دار أهله وعبر النيل سابحاً الى الضفة الشرقية، وكانت تلك آخر إقامة له بالمتمة، فلم يعد لها إلا فى عام 1925م بعد سبعة عشر عاماً. وقد رصد الكتاب معظم المحطات فى مسيرة الرجل الباهرة بكل ما فيها من انكسارات وانتصارات.. عمله بائعاً للبروش والصفائح والجوالين الفارغة وهو صبى يافع.. عامل دريسة فى السكك الحديدية.. مزارع متواضع يكدح فى زراعة مخمس فى منطقة اسمها الحريزّية بين الغبشة وود عشانا.. صاحب دكان متواضع فى منطقة شركيلا يبيع القرض والجلود وعسل النحل وغيرها من البضائع المتواضعة، وما أن ينجح فى جمع اليسير من المال حتى يعود ليخسره، وعن هذه الفترة حكى أنه لم يملك سوى ملابسه التى عليه، فكان يذهب الى قطيته ويخلع ملابسه ويلتف بالثوب ويغسل ثيابه ويتركها لتجف حتى الصباح، ولا يطلب حتى «سفة» تمباك من أى شخص، فقد كان الفتى شديد الاعتداد بنفسه. ولعل جرأة الشيخ وروح المغامرة لديه تتجلى فى عام 1925م حين كان المحصول وفيراً وامتلأت شوارع أم روابة بتلال الذرة، فأخذ قرضاً من البنك وراح يصدر الذرة لمصر حيث تغربل وتشحن من هناك الى أوربا. ثم توسع فى نشاط الصادر، فمضى يصدر السمسم الى فنزويلا فى ذاك الزمان البعيد، وبعدها دلف الى تجارة وصناعة الزيوت فأنشأ أكثر من مائة عصارة بدائية فى مناطق الغبشة وشركيلا وما جاورهما، ثم نشط بعد ذلك فى إدخال عصارات الديزل الحديثة من المصانع الألمانية والإنجليزية، وجاء معها بالطواحين والقشارات، وانتهى به الأمر بعد عمر مديد هو قرن من الزمان «1889 1988م» ليصبح صاحب أضخم المجموعات الصناعية، وأول من صدر زغب القطن للمصانع الحربية المصرية، وأصبحت ألمانيا بفضله أكبر مشترٍ للأمباز والزيت، وتأسس له فيها نفوذ كبير مما جعله يردد معتداً أن أعماله تمتد من الغبشة الى هامبرج. ومن الطرائف التى رصدها الكتاب فى حياة الشيخ مصطفى الأمين، تأثره البالغ فى مطلع حياته بوفاة حماره الذى جاب على ظهره القرى والنجوع، وهو يكدح فى تجارته، فلم يهن عليه أن يترك الحمار الميت لتأكله الضباع الضارية، فأعد له كفناً من الدمورية وأحضر عتالة لحفر قبر له، وقام بدفنه كما يدفن الأعزاء من بنى البشر. وعن قصة زواجه الأول من ابنة عمه التى جاءته تطلب ريالاً لتشترى به ثوب اسمه «الحمام طار» فانتابته شدة الجعليين وبأسهم، وانتهرها قائلاً : تريدين ثوباً لترقصى به أمام الرجال فى الأعراس، والله أنتى من اليوم زوجتى. ومضى إلى عمه ليخطبها ويتزوجها فى عام 1925م، بعد أن دفع مهراً قدره مائة جنيه. ومن الحكم الطريفة للشيخ بعد أن توسعت تجارته وراحت تتداخل مع السياسة قوله: «التاجر الشاطر يجب أن يكون فى مكتبه ثلاثة أدراج.. درج للحكومة السابقة فهؤلاء فقراء جار عليهم الزمن، ودرج للحكومة الحالية ودرج للحكومة القادمة». ولعل أكبر مثال على روح الشيخ المقاتلة والمصادمة قوله وهو على فراش الموت وعمره يقترب من المائة، إنه لن يترك الموت يأخذه دون مقاومة، وأنه سوف «يلاقطه» أى يضاربه، وأسلم بعدها الروح بعد أن لاقط الموت حتى انتصر الموت عليه. وأوصى الشيخ أن يدفن فى أحب مكان إليه وهو المدرسة الأهلية العريقة التى شيدها فى قلب الخرطوم ليتعلم فيها أبناء الفقراء والمعدمين بالمجان، وقال فى وصيته إن الفاتحة التى سيقرأها على قبره تلاميذ المدرسة الأبرياء البالغ عددهم خمسمائة تلميذ هي أقرب لله من فاتحة الآخرين!!