المستقبل ليس تنجيماً ولا قراءة للطوالع في الفناجين، إنه بأبسط تعريفاته ما سينتج عن ممكنات الحاضر. فمنذ أن بدأت عائدات النفط تتدفق على السودان، ثمة من قرعوا الأجراس حتى خُلعت ألسنتها الحديدية مُحذرين من مغبة الاعتماد على النفط دون الاهتمام بتنمية قطاعات الإنتاج الحقيقية في هذا البلد الذي يزخر بموارد وثروات طبيعية وبشرية هائلة، لكن الصمم حال دون الإصغاء إليها.. وما كان الأمر يحتاج لقرع أجراس التحذير للالتفات للحقائق والتجارب العلمية البسيطة في الاقتصاد، لولا أن النظام كان في شغلٍ بالأجندة السياسية الضيقة وهوس البقاء في الحكم وتحقيق المكاسب الفورية الصغيرة، بدلاً من استخدام مداخيل النفط في معالجات علمية وبرامج مدروسة تخاطب جذور الأزمة الاقتصادية ومسبباتها. التخفيض الكبير الذي أعلنته حكومة الإنقاذ في قيمة العملة الوطنية، عبر تصريحات منسوبة لإدارة البنك المركزي، ما هو إلّا واحد من تمظهرات عجزها وفشلها في إدارة الشأن الاقتصادي، كما كل الشؤون، بسبب استغراقها في تكتيكات البقاء في السلطة وإدارة الدولة بشعارات هتافية لا علاقة لها بما يُسمى علم المستقبليات، وينعدم معها الحد الأدنى من التخطيط والإستراتيجية، ويحل التفكير الرغائبي وشهوة الإسقاط مكان الاستقراء العلمي والاحتكام للقرائن. والحكومة بهذا الإجراء تحاول عبثاً تغطية عرض واحد من أعراض أزمة شاملة يعيشها الاقتصاد الوطني دون معالجة أسباب وجذور هذه الأزمة، وهي بذلك تبدو كمن يحاول إطفاء الظمأ بالشرب من سرابٍ يحسبه ماءً، بعد أن أضاعت وقتاً ثميناً وفرصاً طيبة لاستثمار مداخيل النفط «التي تُقدر، حتى قبل انفصال الجنوب، بما يزيد على 70 مليار دولار» في بناء قواعد إنتاج حقيقية تحمي العملة الوطنية من التدهور في قيمتها وتقلص مساحات الفقر ونسب البطالة وتُجنب البلاد حالة الانكشاف الاقتصادي المريع التي تواجهها الآن وتهدد بانهيار كامل يقضي على الأخضر واليابس. ومن الخطل النظر إلى الأزمة الاقتصادية المستفحلة التي تعيشها البلاد من المنظور الاقتصادي الصرف معزولاً عن مجمل سياسات نظام الإنقاذ المُفتقرة للرؤية الشاملة وسعة الأفق والمبنية على لا شىء غير شبقٍ إلى السلطة والثروة لا حدود له، وهي سياسات لم تُزَكِّها مسيرة أكثر من عقدين من الحكم العضوض، حيث فشلت في المحافظة على وحدة تراب الوطن وسلمه الأهلي، كما عجزت أن تُشكل رافعة لأي أهداف وطنية كبرى، لأن نقيض هذه الأهداف يتشكل بوصفه معادلاً موضوعياً لشهوة السلطة والثروة. هذا الواقع الذي يعيشه الوطن يجب ألاّ يستمر، فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطُّبْيَيْن، وتفاقم الأمر ولم يعد يحتمل المزيد من اضطراب عقل السياسة، وسيفضي إلى مستوىً من التعقيد لا ينفع معه حتى الكَيّ.. ولا بديل لتجاوز هذا الواقع المأزوم غير الإصلاح السياسي، طوعاً أو كرهاً، حتى يحلق الوطن بجناحي الحرية والعدالة، ويعبر مستنقع الأزمات بإرادة جماعية عبر مرحلة انتقالية تضعه على سكة الخلاص والتوجه نحو بناء وطني جديد يدرأ الانقسام والتشرذم، ويوقف نزيف الدماء، ويزيح الاستبداد والفساد، ويعيد هيكلة البنيان الاقتصادي لمصلحة كرامة الفقراء، ويُعلي من شأن القانون، ويضمن المواطنة المتساوية والاعتراف بحق الآخر في الحياة والاختلاف، وينهض بالعملية الديمقراطية، من أجل مستقبلٍ أفضل يستحقه شعبنا وأجياله القادمة. إنها لحظةٌ للصدق، ولكن للأسف هناك من يمقت الصدق ويحاربه بلا هوادة من أجل مصالح ضيقة ومغانم صغيرة ضعُف فيها الطالب والمطلوب.