مصر يا أختي بلادي يا شقيقة، و «فيك يا مصر أسباب شقايا».. هكذا كانت أرض الكنانة ذات الحضارة الضاربة في القدم من لدن الفراعنة حاضرة في الوجدان السوداني عبر الحقب المختلفة قديماً وحديثاً، من محمد علي باشا مروراً بناصر البطل، وصولاً الى رئيسها الجديد الدكتور محمد مرسي المنتخب بعد ثورة لم تشهدها المنطقة مثلها. وهي الثورة التي ابرزت معالم مصر الجديدة التي تمثل بعداً اقتصادياً وثقلاً سياسياً كبيراً يراهن عليه في المرحلة المقبلة. هبطتُ أم الدنيا قبل أيام فوجدتها محروسة كالعادة بالالف مئذنة ونهر النيل.. نعم تغيرت مصر ونفضت عنها غبار الماضي لكن ارض الفلاحين لا تتغير وان تغير العالم، فهي تستمر في العطاء ، والحركة في شوارع القاهرة تكاد لا تهدأ والحياة والعمل عنفوان لا يشيب وجمال لا ينقطع وبهاؤها يجتمع في الليالي طرباً ولا يخلو من أدب وفكر متجدد. مع الرئيس كنت اجالس زملائي في الطائرة التي اقلتنا الى قاهرة المعز لحوالى ساعتين، فراحت خواطري الى زيارتي السابقة مسترجعة احوال مصر واهلها حينها، والتي يعلمها القاصي والداني، واستمر ذلك حتى اعلن ربان الطائرة الوصول الى مطار القاهرة الدولي الذي غادرناه برفقة الدكتور وليد السيد أمين المؤتمر الوطني بأرض الكنانة، ومن المطار الي الاتوبيس الناقل مررنا بكل شيء بديع بشارع صلاح سالم الذي به المتحف العسكري وتلك الشواهق من ابراج العبور، ثم مروراً بمحطة رمسيس، ثم مروراً إلى اشهر معلم بقاهرة المعز «ميدان التحرير» الذي اصبح برلماناً شعبياً لمناقشة كل انواع القضايا، ومسرحاً تعرض فيه الكثير من الابداعات. وأضحى ميدان التحرير ذلك المعلم الذي لا تكاد تغادره كاميرات المحطات العالمية وكاميرات الصحافيين. وكانت تلك الجولة القصيرة أكثر من كافية لنستشعر اي نعمة تلك التي حظي بها المصريون. ومع الثلث الاول من الليل خلدنا الى الراحة بضاحية المهندسين، نترقب صباح الجمعة بفارغ الصبر حتى نتجول للاقتراب مما يدور من حولنا، فادركنا سعادة المصريين بالانعتاق من الظلم وفك اسر العبودية التي كانوا فيها. الا ان الملاحظ ايضا الارتفاع الكبير في الاسعار ومرده معروف، وهو التغيرات السياسية والاقتصادية المتسارعة، وهو أمر طبيعي مصيره الى زوال فور مباشرة الحكومة الجديدة مهامها. بيد أن من أفضل اللحظات التي عايشناها في يوم الجمعة اداء الرئيس المصري القسم الرمزي لشعب مصر بميدان التحرير. وفي الثامنة صباحاً من اليوم الثاني السبت كان التجمع مع تلك الثلة الطيبة من الزملاء لمباشرة الدورة التدريبية التي ابتعثنا لها، ومع شاي الصباح تجاذبنا الاحاديث حول الصورة المغايرة التي بدت عليها مصر أمامنا. ومع مشارف العاشرة صباحا توجهنا باتوبيس «الاهرام» الى مؤسسة الاهرام ومنها الى معهد الاهرام الاقليمي للصحافة، حيث كان في استقبالنا د. حسن أبو طالب مدير المعهد مرحباً بكل المشاركين في الدورة، ومن ثم انطلقت الدورة المنشودة بمحاضرة من د. عمرو عبد السميع في فن المقال التحليلي وعلاقته بالأحداث الدائرة، وبعدها قمنا بزيارة الى مقر نقابة الصحافيين المصريين، حيث تمت مخاطبتنا من قبل ممدوح الولي نقيب الصحافيين المصريين، والذي حادثنا عن الصحافة والثورة والاوضاع فى السودان، ومن ثم قمنا بزيارة الي صحيفة «الأهرام» التي يعمل بها زهاء «1600» موظف وعامل، وتعتبر صحيفة «الأهرام» من الصحف العريقة في مجال الصحافة لما تمتلكه تلك الصحيفة من امكانات بشرية وتقنية، وهي مدرسة خرجت أجيالاً في المجال الصحفي، ومن خلال تجولنا احسسنا بقيمة العمل الصحفي واحترام المجتمع المصري للصحافي والصحيفة، حيث تقاس المصداقية في الخبر من الصحيفة عكس ما يقاس عندنا الخبر حيث يقال «كلام جرايد». وتجولنا في كل اقسامها المختلفة، وتعرفنا على أحدث الطرق في صناعة الصحافة وطباعتها بأحدث التقنيات، حيث شهدنا بمطابع الاهرام بمنطقة القليوبية طرق إخراج وتصميم المطبوعات من الصحف والمجلات والكتب وكل المطبوعات الاخرى. وخلال مشاركتنا في الدورة قمنا بزيارة الى مبنى اتحاد الاذاعة والتلفزيون «ماسبيرو» الذي يعمل به حوالى خمسة وأربعين ألف موظف وعامل، حيث بدأنا الزيارة بصالة التحرير ومن ثم الي استديو الاخبار، وتعرفنا على احدث التقنيات الموجودة من خلال شرح المسؤولين بالاستديو، ومن بعد ذلك ولجنا الى استديو «10»، وهو من أشهر الاستديوهات التي شهدت أعمالاً درامية مشهورة مثل «ليالي الحلمية» و «محمد رسول الله» صلى الله عليه وسلم، وعرجنا من بعد ذلك إلى استديو محمد عبد الوهاب الذي شهد تسجيل العديد من أغاني مبدعي مصر مثل عبد الحليم وام كلثوم، كما أننا وقفنا على البيانو الذي كان يعزف عليه محمد عبد الوهاب، حيث استمتعنا بكل دقيقة وقفناها بتلك المؤسسة العملاقة الشامخة التي اعطتنا احساساً بقيمة هذه الدورة، وايضاً قمنا بزيارة للبورصة المصرية، وهناك تعرفنا على سير العمل بها، كما تحدثت لنا مسؤولة الاعلام والعلاقات العامة بالبورصة عن مدى تأثير الثورة على البورصة، ومن ثم انتعاش البورصة مرة أخرى بعد استقرار الاوضاع السياسية بالبلاد، وايضاً كانت لنا زيارة لمقر اتحاد الصحافيين العرب بوسط البلد، واسقبلنا هناك الاستاذ ابراهيم نافع رئيس اتحاد الصحافيين العرب والأستاذ مكرم محمد أحمد الأمين العام للاتحاد، وهناك تعرفنا على ما يدور في الاتحادات العربية، وتمت مناقشة التقارير التي يصدرها الاتحاد والتي ترد اليه من الاتحادات المنتمية، وخاصة المتعلقة باتحاد الصحافيين السودانيين. مدينة مدهشة أما أكثر الزيارات التي كان لها أثر بالغ في نفوسنا بوصفنا دارسين للدورة، هي تلك التي تمت لمدينة الإنتاج الاعلامي بمدينة السادس من اكتوبر، والتي تجمع كل مصر بداخلها، وبحق لقد ادهشتنا المدينة بمساحتها الضخمة واحتوائها على كل مدن مصر بداخلها، الأمر الذي يمكنها من تصوير المشهد دون السفر الى اية مدينة يراد تصويرها، حيث هناك استديوهات تمثل مدينة الاسكندرية وشرم الشيخ والريف المصري، واستديوهات العمل الاسلامي، واستديوهات القرية الفرعونية بما فيها الأهرامات. والمدهش وجود الترماي بداخل الاستديوهات مما يوحي بواقعية المشهد. وكان ذلك اليوم حافلاً بالمشاهدات والقفشات، وجرت خلاله كثير من المواقف المضحكة والجميلة مما يعكس ترابط المشاركين، وتعرفت من خلال تلك الدورة الجميلة على كثير من الإخوة الزملاء والزميلات عن قرب، وساد الرضاء والقبول بما تلقيناه من محاضرات مهنية كانت لها الاثر الملموس في نفوسنا، خاصة أنها كانت من أصحاب تجارب صحفية كبرى، مما يعكس أهمية هذه الدورة. ومثلما عدنا من مصر بعد أن اختلفت صورتها وسمتها في دواخلنا عدنا كذلك ونحن نحمل في دواخلنا مشاعر متداخلة تحتوى على شيء من الفرح وشيء من حتى والفرح بما تلقيناه واكتسبناه من خلال هذه الدورة، والحزن لفراق تلك الروح التي سادت بيننا باعتبارنا مجموعة تلاقت في رحلة فنشأت بينها المودة وروح التعاون. ختامه مسك: وكان حفل ختام الدورة التدريبية زاهياً، فقد ازدانت مؤسسة الأهرام في ذلك اليوم بعشرين من الخريجين بحضور كل من السفير السوداني كمال حسن علي، ودكتور حسبو عبد الرحمن أمين الدائرة السياسية بالمؤتمر الوطني، ودكتور وليد السيد مدير مكتب الحزب الحاكم بالقاهرة، بجانب حضور الأستاذ علاء ثابت رئيس تحرير «الأهرام المسائي»، والدكتور حسن أبو طالب مدير معهد الأهرام الإقليمي للصحافة، فضلاً عن ضيف الشرف الأستاذ عادل الباز رئيس تحرير صحيفة «الأحداث»، بجانب نخبة من محرري صحيفة «الأهرم» المصرية. من الشارع: من خلال تجوالنا في خواتيم زيارتنا الى قاهرة المعز وعبر احتكاكنا بالمواطنين، لم نلمس تغيراً كثيراً في طبائع الشعب المصري، ودائماً ما كانوا يسألوننا هل أنتم مع مرسي ام مع شفيق؟، وكان رد الجميع: «مع مرسي»، وكان ردهم «آه أكيد». وكعادة الشعب المصري لا يخلو حوار مع أحد من طرافة، فكيف الحال وبلادهم تمر بمنعرج سياسي جديد وأحداث متلاحقة. غير أن موقع مصر ذا الابعاد التاريخية وقدرها كاحدى ركائز العالم العربي والافريقي، هذا فضلاً عن اصالة شعبها الجميل، يؤكدان أنها ستمر من هذا المنعطف، لكن اللافت اننا طيلة وجودنا هناك لم نشعر بوجود انفلات امني مثل الذي يروج له، بل شعرنا بكل الامان والاطمئنان.