لقد سطر التاريخ لأمهاتنا النساء في شتى المجالات في الحكمة والمعرفة والايمانيات والصبر على الشدائد، وإذا كانت الخنساء قد بزت بنات جيلها في الصبر على الشدائد، وزادها بزوغاً نبوغها في الشعر، فإننا في السودان فقد ازدانت صحائف أمهاتنا بكثير من المكرمات. اليوم أحيل القارئ الكريم إلى امرأة سودانية دارفورية من شمالها الحاجة عائشة عيسى. هذه المرأة الصابرة المحتسبة التي علمت من حولها كيف يرضع الانسان الصبر ويفطم عليه ويكون غذاءه وشرابه من بعد، هذه المرأة فقدت زوجها عام 1987م وهو يصلح بين فئتين متقاتلتين، خرج منها فجأة ولم يعد إليها بعد، لقد قتل وهو في طريقه لاصلاح ذات البين، لقد تركها وثلة من البنين والبنات، تجلدت وصبرت، لم يتزحزح ايمانها قيد أنملة ولأنها كانت في وسط العمر ووهبها الله مسحة من الجمال، وهي ذات عزة ومنعة في أهلها، وترك لها زوجها ريعاً طيباً من خشاش الدنيا فقد كانت مهوى الخطاب الذين يرغبون في الزواج، ولما لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول المرأة تنكح لأربعة لجمالها وحسبها ومالها فاظفر بذات الدين تربت يداك، هذه الصفات اكتملت في الحاجة عائشة عيسى. ولكنها رفضت وبركت في أبنائها تربيهم أحسن تربية وترفض الزواج حتى تخرجوا في أرقى الجامعات السودانية، محمد في جامعة الخرطوم علم الاقتصاد، يوسف في جامعة القاهرة تخصص قانون، وكذلك بناتها حيث تخرجن معلمات، تيمناً بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وتحدث صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي لم تتزوج وعكفت علي تربية أبنائها اليتامى والتي دخلت الجنة، ولم تنس أن تترك من يقوم بحمايتها ورعاية أنعامها حتى لا يتحدث الناس أنها تركت أنعامها سوائم، الحاجة لا تعلم أن الأقدار تخفي لها الكثير، في ظاهره العذاب وفي باطنه خير كثير، استشهد أحد أبنائها وهو مع «فزع» لاسترداد ابل مسروقة، تتبع الفزع أثر الابل حتى دخلت غارا عظيما تحيطه جبال شاهقة ووديان جارية على مشارف دولة مجاورة، وعندما لاحظ الفزع أن الإبل قد دخلت وكراً عظيماً يحرسه اللصوص من كل جانب فكر قائدهم أن يتراجع لحين المدد، فجأة سمع الشهيد أحمد (حنين الناقة) من داخل الغار لعلها رأتهم من بعيد، أو اشتمت رائحة صاحبها، فقال لهم والله لا أرجع بعد أن سمعت حنينها فاقتحم الغار فقُتل، فرجع القوم يقودون جمله وهم يبكون وهي تصبرهم بكلمة ايمانية قوية قالها لي ابنها محمد تقول لا إله إلا الله إن الله لا يخلف الميعاد، فطوت صفحة الشهيد الثاني بطريقة خاطفة لم تحوج الناس لكثير بكاء وعويل وأحزان، ومضت في سبيلها تنظر إلى الحياة بمنظار التفاؤل والتعايش مع الواقع. تخرج بقية الأبناء، وتزوجت بعض البنات، وشغلت نفسها بالصلاة والدعاء والحج إلى بيت الله الحرام لأكثر من خمس مرات، واعتمرت لأكثر من سبع. قبل أعوام قليلة أصيبت بنكسات متتالية فقد فقدت زوج ابنتها بطلقة اصابته وهو في قريته غرير بشمال دارفور، ولم تكتف الرصاصات التي أطلقت عليه، بل قطعت يد ابنه الصغير، ولأن الصغير ينتمي إلى هذه الأسرة الصابرة المؤمنة المجاهدة المجتهدة، لم تقعده الاعاقة ولم تتلبسه الأحزان بأثوابها المفزعة بل واصل تعليمه حتى دخل أرقى الجامعات السودانية جامعة الخرطوم. الحدث الآخر خلال السنتين الماضيتين فقد قدم ابنها محمد أحمد مع وفد من أبناء عمومته يتقدمهم الأمير محمود الدود ابن شيخ الرزيقات الماهرية بشمال دارفور من مدينة كبكابية وفي طريقهم إلى كتم حتى ظهر لهم كمين من وسط الجبال وقتلهم جميعاً، انتابت الجميع صرعة حزن عظيمة لهذا الموت الجماعي، إلا أن السيدة عائشة مازالت في جلدها وتصبرها، فقد طلبت بنات ابنها الشهيد محمد أحمد لتحتضنهن وتربت على رؤوسهن لتشم رائحته من خلالهن من وقت لآخر، لأنهن لا شك يذكرنها ابنها محمد أحمد، فأصبحن لها السلوى، والايمان والاحساس بوجود ابنها روح ورائحة محمد أحمد بجوارها، ومن قبله ابنها أحمد وزوجها الكريم ابراهيم، يا لها من أهوال يشيب لها الولدان!!، ويا له من صبر يهز الجبال الراسيات!!. ولازالت الأقدار تمد يدها للسيدة عائشة لتأخذ كل غال ونفيس ولكنها لن تبيعه في السوق العربي، وانما تضع ذلك الغالي النفيس بجنب الرحمن إن شاء الله، لأنهم جميعاً شهداء بإذن الله والشهداء عند الرحمن مع النبيين والصديقين، والنبيون والصديقون إن لم يكونوا بجانب الرحمن فمن إذن سيكون بجانبه سبحانه وتعالى؟! يوم الأربعاء الفائت وقبيل المغرب اتصل أحد أحفادها بأبيه وذكر له أنه قدم من الفاشر بعربات الاحتياطي المركزي، وهو الآن بانتظاره في الاحتياطي المركزي بكتم، فهم الوالد موسى ابن السيدة الحاجة عائشة بالذهاب لابنه لأخذه من الاحتياطي المركزي، لاسيما ان مدينة كتم كانت تعيش هاجس محاولة اغتيال معتمدها، فحاول الناس منعه من الذهاب لابنه لأنه وفي طريقه إلى الاحتياطي لابد له من عبور مدينة كتم التي تعيش حالة أمنية استثنائية، ولكن الوالد أصر على الذهاب «قلب الوالد» فقام معه ابن أحد أبناء عمومته طه محمد حسب الله، وابن شقيقته وابن صهره عبد الرحمن الذي استشهد في غرير واسمه ابراهيم. تحرك هؤلاء صوب الاحتياطي المركزي وقبيل الوصول إلى المقر بلحظات أصابتهم دانة مصوبة وهم بالقرب من الشرطة فأردتهم جميعاً قتلى وتحطمت عليهم عربتهم البرادو التي زعم البعض انها جاءت مهاجمة للشرطة. قولو لي بربكم: هل العربات البرادو في كتم تهاجم الشرطة؟، العربات التي يمكنها مهاجمة أي جسم هي معروفة لدى الجميع ولا تحتاج إلى تعريف، ولأن المسافة كانت قريبة من الاحتياطي المركزي بكتم، هرع الابن الذي كان منتظراً لوالده، هرع إلى الحادث لأنه كان قريباً منه، أصابه عيار ناري يرقد على اثره على السرير الأبيض بالمستشفى. يوم الأربعاء الفائت 2012/9/5م انطوت صفحة أخرى من حياة الحاجة السيدة عائشة عيسى، ففي لحظة واحدة غير الشهداء الذين ذكرتهم، استشهد ابنها الثالث موسى، وابن ابنتها أرملة الشهيد عبد الرحمن وابن أخيها طه سائق العربة، وحفيدها الذي استغاث بوالده موسى طريح فراش الجروح. عند سماعي لهذا النبأ الحزين ذهبت للتعزية ولكني آثرت أن لا ألتقي بالوالدة عائشة أبداً، لأني تخيلت كيف تكون حالها، وتوقعت أن لا تقدر على النطق والكلام، بل ربما توقعت هواجس أخرى، ولكن في اليوم الثالث طلب مني ابنها محمد أن أذهب لأُعزي الوالدة، فترددت مراراً، ولم أشعره بهواجسي، ولالحاحه الشديد دخلت على السيدة الوالدة وكان معي الأخ محمد صالح بركة، الذي برك أمامها على طريقة أهل دارفور القديمة ليرفع لها الفاتحة. كنت سارحاً لفترة في وجه هذه المرأة الممتليء بالايمان، المفعم بالحزن، المكسو بهيبة الجلال فلم تردد أمامنا إلا لا حول ولا قوة إلا بالله. بقى أن نعرف بصورة أشمل من هي هذه الأم، هي والدة المعتمد السابق لمحلية الواحة محمد ابراهيم عزة، ويوسف ابراهيم عزة القيادي في حركة التحرير والعدالة، لقد أقمنا المأتم لثلاثة أيام متتالية في منزل ابنها محمد ابراهيم عزة بالفتيجاب ولأن المصاب جلل والذين يعرفون هذه الأسرة المكلومة عن قرب فقد أم المأتم أناس كثيرون، كل قيادات الرزيقات الدستوريين والقياديين والأهل جميعاً، ومعظم قيادات دارفور بكافة شرائحهم وقبائلهم لهم منا الشكر الجزيل، وعلى رأس هؤلاء نشكر الأخ الكريم د. الحاج آدم يوسف نائب رئيس الجمهورية والفريق آدم حامد رئيس مجلس الولايات ووالي جنوب وشرق دارفور وقائد عام حرس الحدود والأخ الفريق صديق محمد اسماعيل نائب رئيس حزب الأمة، والدكتورة مريم الصادق المهدي والأخ الفريق ابراهيم سليمان حسن والأخ آدم الطاهر حمدون والمهندس شمار ومساعد رئيس السلطة الاقليمية يس يوسف، والأخ وزير البنية التحتية للسلطة الاقليمية تاج الدين بشير نيام، ولأن الأسرة شرفتني بإلقاء كلمة القبيلة فقد شكرت هؤلاء وجميع الذين غبروا أقدامهم من أجل تعزيتنا، وللحقيقة نذكر ان قدوم الأهل والأحباب والأصدقاء والجيران كان له وقع في النفوس وتطمين للقلوب، وإذا حاولنا ذكر الجميع لامتلأت مجلدات فليعذرونا ان لم نشملهم بالذكر، وسوف تكون هناك صفحة لشكر الجميع في مقبل الأيام إن شاء الله سواء على الصحف السيارة أو في أية جهة اعلامية أخرى. بقى لي أن أقول: كم من أم أمثال السيدة عائشة تعيش بيننا وقد فقدت ما فقدت من فلذات الأكباد والازواج. وما هو دور الدولة في رعاية أمثال هؤلاء الأمهات؟ أرجو من الجهات الرسمية أن تقوم بإحصائية لأمثال السيدة عائشة، أم تفقد ثلاثة من أبنائها ورابعهم زوجها وخامسهم احفادها، وهي لازالت تتمسك بالصبر والجلد والايمان. أعتقد ان علينا جميعاً دوراً تكريمياً لأمثال هؤلاء النساء حتى نحيى السنن، ونعيد الأعراف. وعلى «فكرة»، فالسيدة عائشة عيسى أرملة الشهيد ابراهيم عزة هي شاعرة في قومها كما الخنساء، فألححت على ابنها محمد أن يذكر لي بعض أشعارها ولكنه قال الظرف غير مناسب، قلت له أعني ببعض الأشعار التي تحفظها عنها أنت، فقال لي الوالدة كانت تكرر بكائية على ابنها أحمد عندما أحضر لها جمله مقيوداً بعد استشهاده على حدود الدولة المجاورة، فقالت: الفارس وين وقع في الحدود بنوح لسيد المقيود الفارس ناره ما كلة الكبود كلواه سيد المقيود تعني المقيود بجمله الذي جاء به قومه. ولأن الناقة والجمل هما القاسم المشترك بين عائشة والخنساء، فقد قالت الخنساء وهي ترثي أخاها صخراً: وما عجول على بو تجول به لها حنينان اقبال وادبار تبكي خناس على صخر وحق لها أن تبكي إذا رأبها الدهر ان الدهر ضرار وأخيراً ان كل شهداء عائشة فقدتهم جراء ضرار الدهر في دارفور بسبب مشاكلها، وكم من أم مثل عائشة فقدت وتضررت ونزحت ولجأت، من هو المسؤول الأول ومن هو المسؤول الثاني والثالث؟ ومن هو المسؤول الأول والأخير؟ أعتقد اننا كلنا مسؤولون منذ العهد الوطني الأول وحتى الأخير، سواء لعدم العدالة في توزيع الثروة والسلطة أو سواء بضعف الدولة في حفظ الأمن اخيراً أو بتقاعسنا وعدم مد الأيادي البيضاء من غير سوء وقلوب مؤمنة مطمئنة على اتخاذ قرارها، وحتى لا نفجع بثكالى أخريات، ونهلك أرواحاً كان يمكن إدخارها ليوم كريهة، يجب أن نصفي السرائر ونحسن النوايا، لنقوم قومة شخص واحد لانقاذ الموقف الوطني بأثره، وضمنياً مشكلة دارفور ويا أمنا عائشة ما دخل دارك شر بعد اليوم. دعائي لأمي عائشة ولكل أمهاتي أن لا دموع ودماء تسيل بعد اليوم، فليكن هذا هو شعارنا في دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان وفي الخرطوم وفي كل مكان فيما تبقى من السودان.