ليس بعيدا في تاريخنا يقبع ما اصطلح على تسميته بالانقلاب العنصري غامضاً ومختلفاً حول حقيقته واهدافه وابعاده، وكعادة الاحداث الكبرى في هذا البلد طمست السنوات المتلاحقة سير ووجوه من شارك في هذه العملية، بحيث لم تبقَ غير صورة المقدم حسن حسين ببذته العسكرية وملامحه الباعثة على التأمل، ولأن شهر سبتمبر وذكرى المحاولة الانقلابية ال( 37) تسعى بيننا، سعت « الصحافة» الى ممثل الدفاع في المحاكمات التي تلت فشل المحاولة المحامي «عبدالحليم الطاهر»، علها تسلط مزيدا من الضوء على ماحدث في سبتمبر (1975)، وعلها تنجح في استنطاق الرجل الذي اختاره حسن حسين من دون بقية المحامين الكبار للدفاع عنه وعن رفاقه في محاكمات «عطبرة» الدموية. {متى بدأت علاقتك بهذه القضية ؟ - تلقيت اتصالاً من نقيب المحامين عابدين اسماعيل وميرغني النصري وكيل النقابة، وكانا من كبار المحامين فقلت لهما : لا يمكن ذلك يجب ان تتولوا هذه القضية انتم، وسنقوم نحن بتقديم المساعدة . ولكن اصرار الاثنين على اختياري وتكليفي بهذه القضية لم يترك لي مجالا آخر. {ولماذا تهيبت من تولي القضية؟ - بصراحة القضية كانت كبيرة وتشغل اهتمام الرأى العام السوداني، ثم ان الكثير من المحامين تطوعوا للدفاع عن المتهمين {ولماذا تم اختيارك من قبل النقابة؟ -الدولة كانت توفر معونة قضائية للمتهمين، والنقابة كانت الجهة المعنية باختيار المحامين الذين يدافعون عن المتهمين في مختلف القضايا، وهذا ما حدث بخصوص هذه القضية ؟ {من تطوع حينها من المحامين؟ -جلال علي لطفي وكان رئيس مجلس الشعب وهذا بحث عن الرصيد الوطني، ولكن حسن حسين ومجموعته رفضوه كما رفضوا غيره من المتطوعين. لكن آخرين تم قبول تطوعهم في المحكمتين الاخريتين لبقية المتهمين بالتورط في الانقلاب من العساكر والمدنيين عبدالعزيز شدو وعثمان منصور.. وقد كان من المتهمين في تلك المحكمتين محامين كبار، من الراحل عبد المجيد إمام قاضي المحكمة العليا ومعتصم التقلاوي وكمال عباس. {لماذا رفضت مجموعة حسن حسين كبار المحامين المتطوعين؟ -المجموعة لم تكن معزولة عن ما يحدث في البلاد، وكانت لها آراء شخصية في اولئك. {طيب لماذا قبلوا بك انت تحديدا..؟ - صمت لفترة ثم قال : لمن مشيت ليهم قبلو طوالي {هل كنت على سابق معرفة معهم؟ -لا انا كمحامي كنت معروفاً وكعبدالحليم الطاهر كانت مواقفي معلومة للجميع {كيف كان اول لقاء بينكم؟ -تحدثوا معي بوضوح وصراحة عن كل تفاصيل الامر وتناقشنا حول كيفية تأسيس عمل الدفاع في المحكمة، ولفت نظري من اول وهلة صراحتهم ووضوحهم الذي قد يصل للعفوية التامة، وذلك ما دفعني لتحذيرهم من احتمال تنصت الامن على الجلسة الا انهم قللوا من الامر وقالوا لي : الموضوع ما وصل المرحلة دي. {اين كان ذلك اللقاء؟ -في عطبرة وكانت السلطات حينها وضعت كل المدنيين في حراسات عادية، اما الضباط الثلاثة حسن حسين ومحمد محمود وشامبي فقد احتجزوا في "ميز" للضباط بالمدينة. {ماذا قال لك المقدم حسن حسين في ذلك اللقاء؟ -قال لي انهم كانوا يستهدفون اصلاح السلطة الحاكمة والوضع السائد في البلاد، وانهم لم يكونوا يبحثون عن السلطة ولم يفكروا بها. واحب ان اشير الى ان احد المتهمين ويدعى مجذوب النميري، من عساكر السلاح الطبي، قال في المحاكمة انهم كانوا يشاركون البهائم في اكل العيش الناشف حتى يحصلون على اللبن، فالاوضاع في البلد كانت سيئة للغاية وهم اشاروا في المحاكمات الى الغلاء والصحة والتعليم والبؤس الذي يعيش فيه الناس. {هل كانت هذه دوافع الانقلابيين الاساسية؟ -نعم بالاضافة الى غلاء الاسعار وشظف العيش في الريف والذي كان "مولع"، وبعدين الفساد داخل السلطة والمتسلقين والمنتفعين وهي مسائل طبيعية في ظل الحكومات الشمولية. {وهل كنت على قناعة بان دوافع التحرك كانت الحقيقة؟ -سأرد على ذلك بايراد ما حدث في مطار الخرطوم صبيحة الانقلاب، فقد حضرت المايوية فاطمة عبدالمحمود الى المطار وهي وزيرة في الحكومة لتستطلع ما يحدث، وكان المسؤول عن تأمينها الملازم شامبي فلم يعتقلها او يتعرض لها بل قام في المقابل بتحيتها بتوجيه اوامر الى سائقه وحرسه الشخصي بتوصيلها الى منزلها. {وما هي دلالات هذه الواقعة؟ -كانت فاطمة اشتراكية مايوية معروفة ورمزاً لنظام الحكم القائم، ورغم ذلك لم يفكر الانقلابيون في اذيتها او اعتقالها، بل لم يطلقوا رصاصة واحدة او يقتلوا احد، فهل هذا سلوك من يبحث عن السلطة باي ثمن، وهل يتماشي مع.. {مقاطعة: اتعد ذلك دليلا على سلمية الانقلاب..؟ -نعم كان الانقلاب سلمياً واشبه بما قالوه هم عن انه " محاولة تصحيحية"، وبعدين هو في سلمي اكثر من كده..! {من خلال احتكاكك المتواصل مع حسن حسين، كيف تصف شخصيته؟ -شخص يتسم بالهدوء الشديد والعمق.. ليس بكثير الكلام ، ولازمني هذا الانطباع عنه حتى الآن، فقد استمر على ذلك النحو طوال فترة المحاكمة. {ألم يغشه التوتر طوال فترة المحاكمة؟ -لا الهدوء ظل مسيطرا على الرجل! وكيف كان حال رفقائه؟ -لم يكونوا يتخيلون ان تنتهي المحاكمات بالاعدام! {كيف والمحاكمات تتم على اساس تهم خطيرة منها قلب نظام الحكم وغيرها؟ -هم لم يعتقدوا بان المحاكمة يمكن ان تنتهي بتلك العقوبة، وذلك لاعتبارات متعددة ومتشابكة منها سلمية التحرك وعدم تقتيلهم لاحد، ثم ان فشل انقلابهم كان سببه الاساسي عدم انتهاجهم للعنف وعدم ابداء اي مقاومة للعنف المضاد، وهذا ما يتضح من ترك قائد الانقلاب حسن حسين لضابط يدعى كمال باصابته برشاش دون ان يرد عليه بالمثل، ودون ان يسمح لحراسه او مجموعته بالرد؟ {وما اهمية هذه الحادثة وما مدى تأثيرها على الانقلاب؟ -كانت بمثابة اعلان فشل الانقلاب لان حسن حسين حينها كان متوجها من القيادة العامة الى الاذاعة لاستعادتها، وبدلا من ذلك حمل للمستشفى. والغريب فعلا ان كل الدلائل والقرائن التي توافرت لي ولغيري حينها عن هذه الحركة وعن قادتها بالذات و منها هذه الواقعة، كانت تقول بانها سلمية وتهدف للتصحيح الذي اشاروا اليه، ولذلك لازلت على قناعة بانهم ظلموا. {لكن التصقت بهذا الانقلاب تهمة العنصرية و...؟ -مقاطعا: لا لا.. دا كلام غير صحيح وحسن حسين ومجموعته ضباط وطنيون. لكن تكوين الانقلابيين ومناطقهم كانت سبباً مباشراً للاتهام.. -شوف كلهم كانوا من مناطق متفرقة صحيح بعضهم اقارب لبعض، لكن المعرفة ليها دور في اي حاجة. وبعدين اجندتهم كانت واضحة وهم كانوا شجعان في اعلان نواياهم وفي افادتهم في المحاكمات التي تمت. مسألة العنصرية دي ما صحيحة وما وردت في تحركاتهم ولا برنامجهم. واقول ليكم انو الضباط الثلاثة كانوا من اميز ضباط الجيش ومعروفين للجميع بنجاحهم وكفاءتهم وصفاتهم وتميزهم. {ألم يكن لهذه التهمة دور في فشل الانقلاب؟ {أحب ان اؤكد ان كل افاداتهم وكل الكلام القيل بان الدافع تصحيح الاخطاء ومعالجة مشكلات الفقر والجوع والفساد في البلد، وبعدين من اسباب الفشل الرئيسة طريقة اعادة البيان الذي اذيع. {وما هي المآخذ على هذا البيان؟ -البيان ده اعداه المحامي كمال الدين عباس ولم يكن موفقا كبيان انقلابي، لان البيان لم يلغِ الحياة الدستورية ويشيل الحكومة، كما فعلت مايو التي استفادت من علاقاتها بالضباط الاحرار في مصر، وتعلمت كيف تعد بيانا انقلابيا يؤسس لوضعها.البيان لم يعفِ النميري والقيادات الكبار في البلد . {اذا البيان الاول كان يحتوي على خلل كبير.. -ايوه لم ينهِ الحياة الدستورية وخلق حالة من الالتباس، ثم انهم لم يطالبوا الجيش بالتحرك والقبض على قيادات مايو في كل مكان. {هل كان الانقلابيون على هذه الدرجة من السذاجة؟ -لا كان هناك بيان آخر تعرض للضياع {من كتبه وكيف أضيع؟ -لا اعلم بمن كتبه ولكن البيان كان بحوزة المقدم حسن حسين، وضاع في ملابسات غريبة {ألم يقل لك قصة هذا البيان؟ -لا كان الرجل قليل الكلام ومتكتماً، ولكن الحقيقة المؤكدة انه قد ضاع منه شخصيا، واعتقد ان مضمون هذا البيان كان سيحدث تحولا في مسار الانقلاب. {هل كان المقدم حسن حسين واضحا وصريحا معك؟ -جدا .. وكأنه يعرفني منذ (100) عام، ووجدت انه متابع للعمل الوطني ويعرف الناس ويعرفني، والدليل على ذلك انه قبلني لمهمة الدفاع عنه ورفض غيري ، ولا اعني بذلك جلال على لطفي وحده لان هناك محاميا كبيرا تقدم للدفاع عن حسن حسين لكنه رفضه. {اذا كان حسن حسين قريبا من العمل الوطني ومطلعا على الساحة؟ -كانوا عارفين وشايفين الناس ، وبعدين الزول المظلوم بكون عارف مصادر ظلمه وين..! {ان كان واضحا وصريحا معاك كما تقول، فهل كان الانقلاب مرتبطاً بجماعة سياسية ما؟ -لا لم يكن كذلك على الاطلاق، لا توجد شهادة واحدة قدمت للمحكمة تثبت ذلك ولم تتوفر بينة على هذا {ألم تتورط قيادات سياسية في هذه المحاولة؟ -لا.. بحسب علمي {ألم يتردد حينها تورط اسماء بعينها؟ -نعم ترددت اسماء قيادات لكن لم يثبت شئ كما ان حسن حسين نفى الامر تماما {ألم يكن قائد الانقلاب على اتصال بقوى سياسية اثناء المحاكمة؟ -لا لم أرَ ذلك ولا اعتقد بحدوثه {هل حملت رسائل من الضباط الثلاثة لاي شخص او جهة اثناء وبعد المحاكمة؟ -لا لا لم افعل ذلك ولم يطلب مني اي منهم، ثم ان الضباط لم يتوقعوا تلك النهاية ألم يحملوك حتى وصاياهم حال ...؟ -مقاطعا : لا لانهم لم يتوقعوا الامر.. وبعدين انا لم اغادر عطبرة طيلة المحاكمة الا لزواج ابنة اخي في امدرمان ألم تشعر كمحامي بان موكلك يتستر على شخص او جماعة ما؟ -شوفوا حسن حسين بطبعه هادئ وقليل الكلام ولا يتحدث اثناء المحاكمة الا حينما يطلب منه. ولم اسمع عنه بتورط ناس تانين وانا كنت اسمع بتورط قيادات سياسية كبيرة وكتيرة لكنه نفى لي الامر وظل ينفيه. على العموم المجموعة التي قدمت لمحاكمات تجاوز عددها (300)، واغلبها جنود صف وبعض المدنيين مثل سكرتير اتحاد طلاب جامعة الخرطوم عباس برشم. {وألم يكن برشم من منسوبي الاتجاه الاسلامي؟ -الرجل كان اسلامياً وملتزماً لكنه لم يكن منظماً! {كيف وماذا عن وجوده بين العسكريين..؟ -هذا ما اعلمه انا، ثم ان برشم هذا دافع بشدة عن موقف ومنطلقات الانقلابيين، وتحدث عن سوء احوال البلاد وجوع الناس والغلاء، واشار الى دوره في نشر الدعوة والى نشاطاته في الاتحاد، لكنه قال ايضا كلاماً مشابهاً لحديث مجذوب عن تقاسمه العيش الناشف مع البهائم، فقد قال عباس برشم في المحكمة " كنت لا اجد حتى ثمن التذكرة التي تعيدني لاهلي في الاجازات". إذن ما شاع عن تورط قيادات في الاحزاب محض شائعة؟ -لا استطيع ان اؤكد ذلك، شاع في تلك الاجواء تورط (500) من القيادات السياسية لكن لم يتم اثبات ذلك من قبل الاجهزة الامنية او سير التحقيقات، ولكن الاهم اصرار المقدم حسن حسين على نفي الامر وتحمله هو وزملائه الضباط كامل المسئولية. {ألم تتوفر لك كممثل للدفاع في هذه القضية اية اشارات على تورط اسماء او جهات بعينها؟ -والله لم يثبت اي من هذا ، كما لم تثبت التحقيقات المعمقة وجود علاقة لهذه المجموعة بسفارات او دول او اية جهات او تلقيهم دعماً مالياً او مساعدات {وجود سكرتير اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بتوجهاته المعروفة لا.. -مقاطعة: وجود عباس برشم غير منظم وهو اكد ذلك، ولو كان معاهم "الترابي"... سكت ثم عاد ليقول : الترابي ما معاهم وما كان بيعرف حاجة. هم كان معاهم قاضي شرعي وهرب من حمام المعتقل ولم يظهر في المحكمة، ولم يعد للسودان الا بعد الديمقراطية الثالثة وعفوا عنه. {وماهو دوره؟ -كان يعمل على نوع من التوعية للعساكر، لكن ما الترابي ولا اخوان مسلمين {اذا انت تصر من خلال خبرتك ومعايشتك للقضية على عدم وجود عقل سياسي مفكر للانقلاب؟ -لا لا .. لم يكن من خلفه عقل سياسي ، محرك الانقلاب دوافع هؤلاء الضباط الوطنيين.