٭ نقل لنا الجاحظ بفكره الاقتصادي في كتابه «البخلاء» إن اكثرهم تجار يستثمرون اموالهم فيما يعود سريعا ريعاً مضموناً في قبضة ايديهم يقلبونه كيفما شاء لهم الربح، وسلك بهم السبل، وهم ينصحون أرباب العقارات ان يتركوا جهود الاستثمار فيها فهي باب التيار، والخسران في أصل المال، فلا بركة ولا حركة، هذا ما دام الامر «كل حركة وراها بركة» فمن أين اذاً يجيء الربح! وما دام المال دولة. ً٭ لقد وجدت اشارة ان ابن خلدون في المقدمة يقول مثّل هذا انتصارا لحركة التجارة الرائجة، وخوفاً من مماطلات المؤجرين، وخراب عمار العقار بسوء الاستعمال. ٭ الآن اكتب هذا وانا مشحون بالهزيمة اللئيمة، فقد مارست التجارة زهاء الثلاثين عاماً وقد دفعني اليها حال الاسرة بعد وفاة الوالد التاجر الاديب، ما كنت ارغب هذا مع ما لمست من نجاحاته، اذ كنت اسمعه حالا بعد حال يزفر زفرة حرى وهو يردد بيتا قديما يحمل مراده احزانه: جلوسي في الدكان ابيع واشتري دليل على ان الانام قرود. ٭ هذا مدخل الحسرة ان قدراته الطائلات وطموحاته فوق قدرات التجارة.. ويقيناً هو يعني قدرات الاديب، وهو رأي مرفوض عند كثر من معشر الادباء الذين ذاقوا المرارات فلعنوا الادب والكتب، اذهما جعلوهم «يرجون الكلاب» كحال الاديب حسين بن الجزار الذى كان قبلاً «ترجوه الكلاب»!! وشتان ما بين: «الكلاب = الناس» و«الكلاب= الكلاب». ٭ أعود لامر الهزائم.. وقد وجدت في اوراق الوالد عليه الرحمات، كلمات كتبها بداية الستينيات، وكان الوطن في بوادر نهضته بعد الاستقلال وما زال الحي الوطني طازجاً وصادقاً طاهراً، وقتها نهضت جماعة مخلصة تدعو للاستثمار الاهلي الصناعي ربما مواكبة لدعوات ظهرت في مصر «البنك الاهلي» نشطت هذه الجماعة ورأسها المرحوم الفذ المهندس ميرغني حمزة عليه الرحمات، تدعو بعد دراسة عريضة لقيام مصنع النيل في ربك.. كان نداءً وجد أذنا صاغية جعل الناس تتدافع زرافات للاكتتاب في اول عمل وطني اهلي.. وهنا اندفع والدي متحمساً يحدوه حب الوطن الزاخر في افئدة كل الناس، هذا بعدما: عمل العقل مفاضلا ما بين منزل «حدادي مدادي في الخرطوم اثنين» عرضه عليه خالنا الاستاذ عبد القادر محمد أحمد ذاكراً ان اصحابه يطلبون مبلغ اربعة آلاف جنيه. وبين الاستجابة لنداء العمل الوطني الاهلي في اسمنت ربك بنفس المبلغ. وجدته قد كتب كلمات قلائل يسجل بها انه امام خيارين: منزل الخرطوم«جراده في الكف» وهو يلبي مطلباً طموحاً لوالدتي الام درمانية قرب شقيقها، وبين نداء الوطن الذي لا غالب له عنده والاستجابة للاكتتاب «الف جرادة طائرة»، وسرعان ما ينتصر الوطن فيه مستجيباً، ودفع نفس المبلغ مساهماً.. كان هذا في 0691م - وفي اواخر 1791م رحل الوالد لربه تعالى وبعدها سارعت لشركة اسمنت النيل عساني اجد ربحا جزيلاً يسيل له اللعاب للاسرة، واذكر ان مدير الشركة قال لي انهم الآن يطورون ويحدثون المصنع حتى يصبح عالمياً!! وسيضيفون خطاً جديداً يستوعب التطورات.. وان المصنع يسير بخطى حثيثة.. وانه وانه وانه الخ، من رتل عبارات «أكل الرأس» حتى التلافيق مما يحسنه المديرون ابداً». الآن مضت خمسون سنة.. ولم يعد لنا منه ما نذكره بالحمد.. غير اسهم جديدة. قالوا انهم اضافوها للمستثمرين ارباحاً.. وهكذا توكل الكتف وتؤخذ الدنيا غلاباً.. بعد اكل الرأس!! «اذا انا غلبان»!!. ٭ الآن منزل الخرطوم وقد زرته بل طفته كيما اعلم فداحة ما خسرنا بالحي الوطني!! ومدى صلاح النفر من رجال الوطن.. سألت عن قيمته المالية وأنا «ابلع ريقي»! ٭ وكاد يغمى علىّ لما قالوا: «مليار وسبعمائة مليون»!!! أليس هذا مما يغمي العقول؟ ويعمي الابصار.. وتمالكت انفاسي خشية السقوط.. هرولت مسرعاً هربا من فلول الهزيمة.. وعبارات المدير الهمام تلاحقني.. وأنا أردد: «الى الكلاكلة... الى ...». ولكم هي فادحة «خررريايه» الوطن!! هذا عين الحرام لو كنتم تعلمون! الى متى هذا! هنا تذكرت ما توافق عليه ما نقله الجاحظ وابن خلدون من الدعوة لترك استثمار العقار والاقبال بشغف على ابواب التجارة.. وحينها علمت قدر ما اثموا ثم جهلوا من مصائب الدنيا الدنيئة ومصاعبها!! يتبع. أ.د. عمر شاع الدين