ظللت طوال سنواتى فى الصحافة أتحاشى إقحام الشأن الخاص فى الشأن العام خلال كتاباتى الراتبة، وانتابنى ذات الحرص حين فكرت فى كتابة هذه الأسطر عن العم والأب الراحل على عبد الكريم صديق، إلا أنى نحيت هذا الحرص بسبب أن الراحل كان رجلاً عاماً، تمددت علاقاته لتشمل كل الطيف الاجتماعى والسياسى فى المجتمع السودانى. وكان قلبه الكبير وبيته المضياف سواء بالوطن أو بالقاهرة يسع كل توافقات وتناقضات السياسة والمجتمع.. السيد محمد عثمان الميرغنى.. السيد أحمد الميرغنى .. السيد الصادق المهدى.. السيد أحمد المهدى.. الرئيس السابق جعفر نميرى.. اللواء عمر محمد الطيب.. التجانى الطيب بابكر.. د. عبد الحليم محمد.. الشيخ عبد الرحيم البرعى.. مولانا خلف الله الرشيد.. أحمد عبد الرحمن محمد.. الجزولى دفع الله.. سر الختم الخليفة.. قاسم بدرى.. د. عبد المنعم الشفيع.. عبد الكريم الكابلى.. د. موسى عبد الله حامد.. د. كاشان.. السفير أحمد عبد الحليم.. أحمد عثمان عبد السلام.. عثمان محمد الحسن.. الحاج بشير النفيدي.. آل مالك.. عمر عثمان محمد صالح.. عبد العزيز خالد.. أحمد السيد حمد.. طلبة عويضة.. كمال حسن بخيت.. محجوب عروة.. الفاتح عروة.. عمر قدور.. السر قدور.. الزين الجريفاوى .. أحمد الفرجونى. ولو مضيت أعدد الأسماء لما كفتنى الصفحة بأكملها، هذا غير صفوة أصدقائه المقربين وجيرانه هنا وفى القاهرة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر.. محمد أحمد سنهورى.. الشاذلى الشيخ الريح.. مأمون البرير .. محمد عثمان خليفة.. عبد الرحمن عباس.. سمير أحمد قاسم .. جيلانى جعفر.. الحاج المبارك.. المهداوى.. وآخرون كُثر.. رحم الله من رحل وأمد فى عمر من بقي. وفوق هذا هناك عشيرته وأهله وأصدقاؤه فى تندلتى والكاملين ورفاعة وكوستى والقضارف والأبيض وغيرها من مدن السودان التى امتد فيها نشاطه التجارى وصلاته الاجتماعية الواسعة، ولا يحسبن أحد أنه كان ينتقى صفوة القوم وزُبدة المجتمع ليمد معهم جسر التواصل، فقد كان حفياً كريماً بالفقراء والضعفاء والمرضى، ومازالت كلماته الأثيرة ترن فى أذنى إبان إقامته الطويلة فى القاهرة حين يأتيه مريض أو يستنجد به أحد المعارف طالباً إرسال دواء، فكان يقول: «إلا الدواء والمرض»، للدرجة التى بات يعرف فيها معظم أطباء القاهرة المرموقين فى مختلف التخصصات، ويقيم الصلات الوطيدة مع الصيدليات التى حول بيته العامر فى «4» شارع عباس العقاد مدينة نصر، حتى بات البيت بمثابة الملحقية الطبية لكل أهل السودان. وهنا فى داخل الوطن ظل الرجل يبذل المال بسخاء بالغ فى دعم عمل الخير، فكان فى طليعة من هبوا لدعم مستشفى ام درمان، ودعم وتأهيل المدارس والخلاوى والمساجد، وقام بتشييد أكبر المساجد بالثورة الحارة «17». وقد لعب العم والأب الراحل على عبد الكريم صديق مع آخرين دوراً مقدراً فى تنمية صادرات السودان، فكان يهتم بالارتقاء بصادر السودان من المحاصيل لا سيما الصمغ العربى، حتى عُدّ من كبار المهتمين بهذا النشاط، فأنشأ شبكة واسعة تنشط فى تجميعه من مناطق الإنتاج عبر محطات عديدة لتتم معالجته وفرزه حتى يتم تسليمه فى «نقاوة» وجمال الذهب الى مخازن شركة الصمغ العربى ببورتسودان، ولا يداخلنى شك أن انهيار مثل هذه الهمة الوطنية وغياب هؤلاء الرجال العصاميين فى أيامنا هذى هو واحد من أسباب عديدة أودت باقتصاد السودان. وعندما اُعتقل على عبد الكريم صديق عليه رحمة الله فى سنوات الإنقاذ الأولى كانت البسالة وثبات الرجال هما موقفه فى مواجهة ذاك الابتلاء، وما همه أن يفقد كل ماله وربما حياته على أن يضعف أو يتزحزح عن قيم الفروسية التى وهبها سنوات عمره كلها، فجعل من سجن كوبر بأكمله مسرحاً لكرمه الفياض وسخاء طبعه، والكرم والسخاء كان فيه طبعاً وفطرة ما هزتها وحشة السجن ولا قسوة الظلم، فكان وخلال فترة اعتقاله الذى صادف شهر رمضان يحرص على أن يفطر كل المعتقلين السياسيين وغير السياسيين من بيته، فكانت «البكاسى» تحمل قدور الطعام الفاخر والعصائر وألواح الثلج بكميات وفيرة الى سجن كوبر، ومن الطرائف التى يحكيها وهو يضحك أنه حين تم الإفراج عنه من السجن وبينما هو منشغل بوداع رفقة السجن من السياسيين التفت الأستاذ التيجانى الطيب «عليه رحمة الله» ضاحكاً ومتسائلاً نحو البقية وهو يقول: «أها قارون طلع من السجن.. تانى منو البيأكلنا؟». وقبل بضع سنوات اتصل بى ذات صباح ليدعونى الى إفطار محدود لا يتجاوز أهل بيته دعا له فقط الرئيس السابق جعفر نميرى وشقيقه مصطفى، ولما لمس منى تردداً حسبه من أسباب السياسة قال لى: «إنتا عارفنى أنا ما زول سياسة.. لكن بيتى مفتوح ليتوافق فيه كل أهل السودان»، وبالفعل ذهبت حيث رأيت الوجه الآخر للسياسة فى السودان. وكان العم على من فرط كرمه واحتفائه بضيوف مجلسه العامر يحرص على إرسال أحد أبنائه بالعربة ليأتى بمن أرهقهم المرض أو كبر السن أمثال د. حليم وسر الختم الخليفة ومولانا خلف الله الرشيد «عليهم رحمة الله جميعاً» ليسمروا مع الآخرين فى داره، ثم يوصلهم بذات الطريقة الى بيوتهم البعيدة آخر الليل. رحمك الله «بابا علي» فهكذا كان يناديه الأحفاد.. وما أوحش البيت الكبير فى غيابك.