الحنين الى الماضى يظل دوما يلاحق الناس وينسج خيوطه العنكبوتية حول ايامهم ولياليهم لتفرهد اوراقه الخضراء فى غياب الايام الحلوة والعصف المادي الراهن، ويظل المرء يسمع دوماً من الآباء والجدود كلمة «يا حليل زمان ويا حليل ايامنا»، ولا غرو فقد كان كل شيء ميسراً، وكانت القلوب نقية وصافية وكان العمل والاجتهاد شعار تلك الايام. وبتطور الحياة وتقلباتها والسعى وراء الكسب، تبدلت الاحوال وتغيرت الامكنة ومضت السنون عجلى، ومدينة الابيض من المدن السودانية التى اشتهرت بترابط اسرى مميز ونسيج اجتماعى فريد منحها منحة خاصة ووفاء لا يدانيه وفاء، فصاغ ذاك النفر من الجدود والآباء تاريخ المدينة وارثها ورسموا لها خط ثقافة واجتماعيات ثابتة لا تتزحزح. وأخيراً انعدمت المنتديات الهادفة بالمدينة والصوالين الادبية الثرة، وتراجعت مساهمات الدواوين التى كانت تشكل تلاقياً للأسر والاهل والاصدقاء، فلزم اغلب اهل المدينة ديارهم، واصبحوا يتسامرون بالتلفاز والقنوات والاحاجى. واصبحت بيوت الاتراح والمآتم والاعراس تمثل المنتدى الكبير، والمواقع التى تجد فيها كل من تريده من اعيان واهل المدينة ووجهائها، وهى ظاهرة تستحق الاشادة والوقوف عندها. ويقول الحاج عمر الزين عبيد ابن العمدة الزين عبيد صاحب البيت الذى لم يقفل لقرابة المئتي عام، والانسان الناشط فى العمل الاجتماعى والخيرى بالمدينة، يقول ان الابيض تمتاز بتواصل اجتماعلى فريد، وهي من المدن القلائل فى السودان التى لا تعرف القبلية، وسكنتها كل القبائل والجاليات منذ زمن بعيد، والمثل يقول: «لو فقدك الناس فى اى تشييع لجنازة تكون المتوفى انت».. اما عن بيوت الاتراح والافراح فقد أصبحت الملاذ للتسامر او طرح فكرة جادة من اجل تطوير المدينة، لكونها تجمع كل اهل المدينة القدامى الذين لا يتأخرون قط عن اداء الواجب عزاءً كان او فرحاً، وهو الذى جعل المدينة تحافظ على ارثها القديم. وتمنى عمر الزين أن يحافظ الأهل في الابيض والولاية على هذا التواصل الحميم .. ويرى الشاب يوسف جامباكا احد ناشطى موقع التواصل الاجتماعى فى الفيسبوك «افراح واتراح» ان حرصهم على الوجود والتواصل مع المناسبات، لأن الآباء منذ الصغر كانوا يصطحبوننا الى المناسبات، وعلمونا تقديم الشاى والماء فى بيوت الاتراح، فضلا عن توزيع كروت المناسبات، والابيض هى المنزل الكبير والحوش الواحد، واى شخص يمثل لنا الاب والجد والخال والحبوبة والخالة، فرضعنا الحب والحنان والتحنان، وسنحرص نحن كشباب على المحافظة على ذلك. ويمضى الشاب اسامة محمد على ضوينا فى ذات الاتجاه، ويقول: رغم ان بيوت المناسبات تمثل منتدى كبيراً الا انهم يسعون الآن لإعادة احياء تلك الاشياء الجميلة من التواصل الاسرى والدواوين المفتوحة وجلسات العصارى وحلقات التلاوة. ويقول دكتور خضر الامين ان ارث المدينة كبير وعظيم، وتعتمل فى بيوت المناسبات كثير من الافكار والرؤى التى يمكن ان تساهم فى تطوير المدينة والولاية. وأرى ان اهل الابيض كلهم اسرة واحدة، ومن هذه البيوت خرجت افكار تشييد المدارس والمستشفيات وغيرها من اعمال البر والتواصل. ويرى الأستاذ أحمد مساعد رئيس المكتب الصحفى بوزارة الثقافة والاعلام ان العلاقات الاجتماعية بين مواطنى الابيض علاقات وثيقة ومتجذرة، وتتجلى فى الافراح والمآتم، ولكن فى الفترة الاخيرة تغير اسلوب حياة الناس، وتغيرت بعض وسائل اللقيا مثل الالتقاء فى المقاهى التاريخية بالابيض كقهوة الاخوان وزهرة افريقيا والسينمات، ودار الرياضة هجرها الجمهور، لذا أصبحت البيوت اضافة لوظيفتها الاجتماعية الاساسية لها وظفية خيرية، وتحول الحديث الى الثقافة والرياضة وغيرها، وارى انها نوع من التواصل الجيد. وتبقى مدينة الابيض المدينة الفاضلة، فبمثلما أبنت أمس ابنها الدكتور مصطفى حسن التمارى الرجل الناشط فى شتى المجالات وفاءً لما قدمه للمدينة، فقبل ايام ابنت وكرمت فقداء أعزاء منهم حيدر أبو سكين وعثمان كدراوية والحكم محيي الدين حسن وكاوندا وكمبا وعمر أبو رأسين وأحمد فزع والتاج جرة وحسن صباح الخير عبر مؤسسة التبلدى للبراعم والناشئين، فهى كل يوم تعيد ذكرى من مضوا وكانوا ملء السمع والبصر اجتماعياً ورياضياً وخيرياً، وساهموا فى إرساء دعائم العمل الاجتماعي والتواصل. وتظل بيوت الأتراح والأفراح ملاذاً لكل الأيام والأجيال القادمة.