المال والبنون زينة الحياة الدنيا ما في ذلك أدنى شك، ويكفي أن قصر رب العزة زينة الحياة فيهما، الأمر الذي يجعل ما سواهما من نعم مجرد ملحقات مكملة للإحساس بمتعة الحياة ونشوتها، فكل إنسان يحب أن يكون له من المال والبنين ما تقر به عينه ويجعل له الاستقرار. ورحم الله القائل «ربي ما تحرم بيت من الأطفال» وقد اقتضت الإرادة الربانية حرمان أسر كثيرة لحكمة يعلمها الله في عليائه، ومع ذلك يجد المتابع لمسيرة الحياة الاجتماعية أن ثمة أسراً اعتادت اتخاذ فلذات أكبادها من الزغب الحواصل مشجباً ومطية للحصول على بعض الجنيهات عبر اتخاذ أطفالها وسيلة للتسول في الأسواق وتقطاعات الطرق، لاسيما في المدن الكبيرة التي في مقدمتها العاصمة القومية. مريم وحسن طفلان لم يتجاوز عمرهما السنتين، فعوضا عن أن يفتحا أعينهما مع بواكير الصباح على ضحكة حنان وحضن دافئ وتربيت أب حانٍ، يجدان أنفسهما أمام استعدادات تجري من قبل والدتيهما اللتين تتقاسمان السكنى في دار ران عليها البؤس وغطاها العدم، للخروج على ظهري والدتيهما والاتجاه إلى أحد التقطاعات المرورية بغية ممارسة التسول واستجداء المارة وممتطي المركبات أعطوهم أو منعوهم، ولا تعير الوالدتان ابنيهما أدنى درجة من الاهتمام سوى إحكام ربطهما على ظهريهما، ولا يهمهما أن يلفح هجير الشمس اللاهب جسدي طفليهما الغضين أو يحرمان من ممارسة حقوقهما الأساسية في حياة كريمة، والعذر عند الوالدتين قسوة ظروف الحياة وصرفوها التي أجبرتهما وكثيراً ممن اضطرتهم صعوبة الحياة إلى ركوب موجة التسول. يقول الموظف حسن الطيب حماد إن التسول أضحى أمراً عادياً في الفترة الأخيرة، إذ أجبرت ظروف الحياة كثيراً من أبناء وبنات الوطن على التخلي عن عزة النفس وكبريائها جراء افتقادهم مصادر عيشهم بسبب الحروب أو الصراعات القبيلة أو الاقتتال الأهلي، الأمر الذي جعلهم أمام أمرين أحلاهما مر، إما الانحناء لعاصفة الظروف وتعذر تلبية احتياجاتهم الأساسية، أو التخلي عن كبرياء النفس وعزتها والرضاء بمد يدهم أسفل أيدي الآخرين وسؤالهم المساعدة أعطوهم أو منعوهم. وزاد حماد قائلاً: غير أن أخطر ما في أمر التسول اتخاذ بعض المتسولات أبناءهن الأطفال مطية لكسب عطف الآخرين دون أدنى التفاتة لتبعات صنيعهم والآثار الاجتماعية المدمرة التي تلحق بالأطفال آنيا ومستقبلاً، ودعا حماد الجهات الحكومية لاتخاذ تدابير لحماية الأطفال من جور الزمان. وغير بعيد عن إفادة حماد تقول الطالبة الجامعية مشاعر نور الدائم إن انتشار ظاهرة التسول بالأطفال في المواقف وتقطاعات الشوارع أضحى أمراً مقلقاً للعامة ينم عن جهل الأمهات اللاتي لا يتورعن عن الزج بأطالفهن في أتون الشمس الحارقة والأتربة العاصفة وحرمانهم من أدنى حقوقهم في مرحلة الطفولة، الأمر الذي يمثل خطراً على نشأة الأطفال وتعميق درجة الحقد والغل في المجتمع مستقبلاً، مما يحولهم إلى لصوص وخارجين عن طور القيم الاجتماعية. ونشادت مشاعر الحكومة إجراء دراسات اجتماعية لمعرفة الظروف التي حدت ببعض الأمهات إلى زج أطفالهن وتنشئتهم على قارعة الطريق على نغم التسول الذي يكسر الوجدان ويبدد الكرامة. ولم تنس أن توجه رسالة لهؤلاء الأمهات بمخافة الله في أطفالهن. وعلى صعيد علم الاجتماع يقول الباحث الاجتماعي فيصل محمد شطة: حتى يتسنى وصف ترياق ناجع لأية معضلة أو إشكال لا بد من الوقوف على الأسباب والظروف التي قادت إلى بروزها إلى حيز الوجود. وأضاف أن أغلب المشكلات التي يعاني منها الشعب السوداني متفرعة يصعب الوقوف على أسبابها والدوافع وراءها، الأمر الذي يصعب الوصول إلى حلول لها. وإن تم وصف حل لها يكون مؤقتاً. وأبان أن التسول انتشر بصورة عامة في الفترة الأخيرة جراء الحروب الأهلية والقتال القبلي والكوارث الطبيعية، الأمر الذي قاد إلى إضعاف دخل الأسر، وبالتالي إضعاف دورها في تنشئة أطفالها، لجهة أن الفقر بغض النظر عن أسبابه يقود إلى إيقاد نار الحاجة في النفوس التي إن تفاقمت ووصلت حداً معيناً فإن الإنسان عنده يتنازل عن قيمه بغية الحصول على لقمة تقيم أوده، وإن جاءت على حساب قيمه وعرفه وكرامته. وأضاف شطة أن بعض الأمهات اللاتي يتسولن بأطفالهن يلجن إلى قلب الشعب السوداني من ثغرة العاطفة فيه، ولا يضعن اعتباراً لتضرر أطفالهن من الحرمان من التنشئة في ظروف طبيعية، وفقدانهم للتعليم مستقبلاً جراء فقدانهم للجو الأسري السليم الذي يقود افتقاده إلى تحول هؤلاء الأطفال إلى قنبلة موقوتة مستقبلاً تشكل خطراً على المجتمع جراء إحساسهم بالحرمان والحقد على المجتمع والعزم على الانتقام منه. وختم شطة حديثه بأن الحل لهذه المعضلة يكمن في أن تلعب المؤسسات الحكومية والاجتماعية ذات الصلة دورها المنوط بها في تقليل الظاهرة بإجراء الدراسات الاجتماعية الكافية والوقوف على أسبابها، حتى يتسنى إرجاع الحقوق الأساسية للأطفال في العيش الكريم.