المدارس فتحت في السادس والعشرين من يونيو.. بعد أن ازدادت حدة المناقشات في معظم البيوت بسبب توفير مستلزمات المدارس من ملابس وأحذية وحقائب.. وبالرغم من أن ولاية الخرطوم وعلى لسان واليها جددت حديثها عن مجانية التعليم.. وقالت المسألة طوعية يحددها مجلس الآباء والأمهات.. إلا أن الشكوى متصاعدة من طلبات الرسوم المرتبطة بصرف الكتب وبدء الدراسة.. والشكوى نفسها من مجالس الآباء والأمهات.. ويقولون إن الغلاء جعل الحياة محاصرةً بالعجز عن الإيفاء بضرورات الحياة.. وأصبح تعليم الأبناء في يد القدر. تذكرت واقعة حدثت لي السنة الفائتة.. وهى أني وجدت صغاراً يلعبون ويمرحون تحت ظل شجرة من أشجار الطريق العام، وقد وضعوا أحذيتهم وحقائبهم جانباً كأنهم يتحررون منها. ولفت نظري طفل يكبرهم قليلاً.. انزوى بعيداً وأخذ يبكي بانكسار واضح.. وظننت في بادي الأمر أنه اختلف معهم في لعب (البلي) أو أنه لا يملك (بلي).. اقتربت منه سألته عن سبب بكائه، فقال لي ( هيثم أبى يوريني كتاب المطالعة) قلت له أين كتابك أنت؟ فقال: أنا ما عندي كتاب.. أنا ذاتي مرقت من المدرسة.. أبوي عيان وأمي قالت ما عندها قروش للمدرسة، وهى بتبيع الشاي، وقالت أنا الكبير أحسن أساعدها عشان أخواني الصغار. استمعت إلى كلمات الطفل التي كانت تنزل على رأسي كضربات المطرقة وهو يقولها وتشع عيناه بحيرة تائهة، وتقول ملامح وجهه إنه يمتاز بذكاء فطري وحب للمعرفة مولود معه.. فهو لا يبكي من حرمانه من لعب البلي ولكن لحرمانه من النظر في كتاب المطالعة. ذهبت ولم تفارق مخيلتي صورة الطفل طوال اليوم، بل وظلت تستدعي جيوشاً من الصور والخواطر المتزاحمة كل واحدة تلحُّ في التعبير عن نفسها.. عمل الأطفال.. التشرد.. الحرمان من التعليم.. التعليم هذا وقفت عنده عنده كثيراً.. ذاك الطفل الذكي في أتم الاستعداد للتحصيل.. لكن ظروف أسرته الاقتصادية.. والده المريض.. وأمه ذات الدخل الضعيف وإخوانه الصغار.. هي التي حرمته من التعليم.. أو بالأصح حرمت الوطن من قدرات أحد أبنائه الأذكياء. في الزمن الذي كان يوفر فيه التعليم الأساسي مجاناً حقيقة وبعدها بمصاريف اسمية.. كانت الفرصة متاحة لكل من قاسوا أتعس ألوان الحرمان والفقر بأن يتمتعوا بحق التعليم المجاني وشبه المجاني، ويخرجوا من دائرة الجهل والخوف ووأد الذكاء أو تحويله إلى طاقة مدمرة في عالم الجريمة بفعل الإحساس المكثف بالحرمان والظلم والقهر.. وكان الناس يقولون (يكبروا الصغار ويزيلوا الغبار) غبار الحاجة والفقر. وهناك أمثلة كثيرة لنوابغ وعلماء في شتى مجالات الحياة، ما كان لهم أن يكونوا لولا مجانية التعليم أو التقليل من نفقاته إلى أقصى حد.. فالنظر في أمر التعليم هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة الظلم الاجتماعي والقهر السياسي والفوارق بين الأفراد وبين الريف والمدن.. فتحت مظلة المصاريف الباهظة للتعليم تنفرد فئة قليلة مقتدرة بالتعليم حتى وإن كانت لا تمتاز بالذكاء والنبوغ، وتبقى الغالبية العظمى من أبناء الفقراء ومحدودي الدخل محرومةً من التعليم وتعيش في ظلام الجهل، وإن تعالت درجات ذكائهم وتعاظمت رغبتهم في المعرفة والعلم. قضايا التعليم أصبحت شائكة ومتزايدة.. فهلاَّ انتبهنا إلى ذلك، وفي ذهننا مستقبل هذا البلد في ظل العولمة الزاحفة والسلام المأمول. هذا مع تحياتي وشكري.