هذه الصحيفة تحتوي على آيات قرآنية كريمة ويتصدرها اسم الجلالة، نرجو مراعاة وضعها في مكان لائق وعدم رميها في مكبات القمامة أو إساءة إستخدامها بأي طريقة تسيء لما تحمله طياتها من آيات بينات، هذا هو تقريباً مضمون التنبيه الذي درجت كثير من الصحف السودانية في فترة ما على وضعه في مكان بارز بالصفحة الأولى تنبه فيه قراءها الأعزاء لضرورة مراعاة حفظ قدسية آي الذكر الحكيم، ولكن عند محاولتي التأكد من مدى التزام الصحف بهذا التنبيه بمراجعة ما تيسر لي منها وهي تفوق العشر صحف، وجدت فقط أن الغراء صحيفة «السوداني» هي الوحيدة التي ما زالت تحافظ على هذا التقليد وإن كان بخط رفيع جداً، بينما إختفى من الصفحات الأول في بقية الصحف، والمؤكد عندي أن الصحف السودانية عندما بادرت لأول مرة بوضع هذا التنبيه أنه لم يكن من عندياتها وإنما نتيجة فتوى صدرت لها من جهة معنية باصدار الفتاوي، أو مفتٍ ما، ولكن هل يكفي فقط وضع الصحيفة في مكان لائق وعدم تعريضها لما يسيء لقدسية ما قد تحمله من آيات كريمة، فالصحيفة معروضة في سوق الله أكبر وقد يشتريها من يفترض فيهم أن لا يقربوا آيات الله وأن لا يمسوا الوسيط الذي يحملها، ومن هؤلاء من هو على جنابة لم يتطهر منها بعد والحائض والنفساء، ومنهم من هو غير مسلم كافراً كان أو من أهل الكتاب، فهل يجوز لهؤلاء أن يمسوا هذه الصحف التي تحوي آيات قرآنية بل وقراءتها، ثم كيف للصحف تفادي هذا المأزق والمنزلق؟ لقد خطرت لي هذه الخاطرة على خلفية فتوى رئيس دائرة الفتوى بهيئة علماء السودان بتحريم إهداء المصحف الشريف للكافر بحجة أنه من غير أهل الطهارة وبذلك يُخشى عليه من أن يدنّسه أو يسيء إليه، ولم يكتف هذا العالم بتحريم إهداء المصحف للكافر وإنما طالب باسترجاعه منه على سبيل الكفارة من هذا الذنب العظيم، وقد جاءت فتواه هذه في أعقاب زيارة القائم بالأعمال الاميركي جوزيف إستافورد لجماعة أنصار السنة ولقائه برئيسها الذي أهداه مصحفاً فاخراً في ختام الزيارة، بيد أن فضيلة الشيخ حيدر التوم مساعد الأمين العام لهيئة العلماء نفى إصدار الهيئة لهذه الفتوى واعتبرها شأناً شخصياً يخص من أصدرها، وللعلم فقط فإن من أصدرها هو رئيس دائرة الفتوى بذات الهيئة، ولا ندري ربما كان له أنصار آخرين من داخل الهيئة يوافقونه على فتواه، بل يغلب على الظن أنه واجد الكثير من الأنصار بطبيعة تكوين الهيئة التي تضم وجوهاً معروفة بالتشدد، وهذا يعني أن إنقساماً قد وقع داخل الهيئة، بعضهم لا يرى غضاضة في إهداء المصحف لغير المسلم وبعضهم يحرّمه، وهذا يعني أيضاً أن الهيئة ليست على قلب رجل واحد وأن أعضاءها ليسوا على مذهب واحد، وهنا مكمن المفارقة، أن تصدر فتوتان متقاطعتان من جسم واحد، فهل هذه الهيئة «لحم راس» على قول أهلنا في الشيء غير المتجانس، فأن كان ذلك كذلك فانه وضع خاطئ يحتاج إلى تصحيح بتوفيق أوضاع هذه الهيئة وإعادة هيكلتها حتى تصدر فتاويها من مشكاة واحدة، فالناس قد يقبلون صدور فتاوى متعددة حول موضوع واحد ولكن من جهات مختلفة وعلماء مختلفون وفي ذلك رحمة، أما ما عدا ذلك فانه أدعى لإثارة الاضطراب والبلبلة بين الناس... والله أعلم ومن قال الله أعلم فقد أفتى...