عقب ثورات الربيع العربي ظهرت كثير من الدراسات العلمية والبحثية التي تناولت مجالات متعددة ومنها مجال الحرية. ومن بين أهم الناظرين في قضية الحرية الإعلامية والصحفية على وجه التحديد الدكتور سليمان الشمري. الذي أصدر دراسة بعنوان الحرية الإعلامية واشتملت على عدة موضوعات من بينها ما أطلق عليه مفهوم الرقابة الذاتية لدى أربع صحف مصرية. وأحسن ما في دراسته أنه عرف الرقابة الذاتية بأنها رقابة خطيرة وسلبية وذلك لأن الاستسلام الكامل للرقابة الذاتية الخارجية يحول الصحفيين والكتاب إلى مسوخ مشوهة تجعلهم يعتبرون كل صغيرة وكبيرة ذات بعد سياسي بأنها تمس الأمن القومي.. ومصطلح الأمن القومي مصطلح (مطاط) فالصحافي مطالب بأن يمارس أقصى درجات الحذر وضبط النفس والعيش تحت الرقابة الذاتية في المسائل التي يمنع الخوض فيها، كالخوض المتعمق في المسائل السياسية والاقتصادية للبلد ومناقشة الشؤون الدولية بحرية كاملة... وعلى النقيض من ذلك فإن بعض المسؤولين في البلاد العربية ربما ينظرون إلى هامش الحرية الإعلامية على أنه واسع جداً لعدم وجود رقابة مباشرة وأن الصحفي يخضع لرقابة ذاتية خاصة.. وأخذ الشمري عينة الدراسة وهي عبارة عن أربع صحف مصرية جاء اختياره لها لسببين:- أولاً: وجود صحف معارضة وهذا يؤكد جزءاً من عرض بحثه ويعكس وجود جو نسبي من الحرية في مصر واختار صحيفتي الشعب والوفد عينتين لصحافة المعارضة لتعبرا عن رأي قد يختلف أو يتوافق مع آراء العاملين في الصحف الرسمية ولكي يختار صحيفتين لهما ولاء للنظام والحكومة اختار صحيفتي الأهرام والجمهورية.. وعندما طرح الشمري تعريفه للرقابة الذاتية (المذكور آنفاً) على العينة المختارة للبحث من الصحفيين وجد الموافقة على صحة التعريف، وهناك قلة قليلة هي التي اعترضت على كونه وفي حالة سيطرة الظروف الخارجية تصبح الرقابة صدى لضغوط العناصر الخارجية رقابة سلبية، وكان ذلك بنسبة (77%)، وهناك جانب دار حوله نقاش كثير وهو المتعلق بكون الرقابة الذاتية ايجابية في حالة خضوعها لقناعات الصحفي أو الكاتب والتزامه وضميره رقابة ذاتية.. ويورد الشمري أنه كلما ازدادت مراقبة الشخص الذاتية لمشكلة الصحفي كان ذلك ينم عن تكريس صفة الجبن في نفسه وهو ما يتعارض مع رسالة الصحفي من المكاشفة ، وقد اعترض الصحفيون على هذا المفهوم بنسبة (61%) ، ويعزون ذلك الاعتراض لعدم قبولهم لهذه الكلمة القاسية في تركيب هذه العبارة المشتملة على صفة (الجبن) باعتبار أن القضية مختلفة ولا دخل لها بصفتي الشجاعة والجبن.. ولكن البعد السياسي في قضية الرقابة الذاتية هو المهيمن على غيره من الأبعاد الاجتماعية والدينية، وبسؤال الصحفيين المصريين عن العوامل التي تحد من حرية الصحافة وتزيد من حجم الرقابة الذاتية جاء ترتيبهم للعوامل والمتغيرات انطلاقاً من تقييد حرية الصحافة والعوامل التي تحد من حرية الصحافة كثيرة ولكن العامل السياسي يتفوق على العوامل الأخرى: اقتصادية واثنية وثقافية واجتماعية بنسبة بلغت (77.7%) ورقابة الضمير في معناها الايجابي كما يعرفها الصحفيون أنفسهم بأن الرقابة الذاتية هي الضمير الحي في اطار من القيم والمثل العليا التي يعتنقها الصحفي للوصول إلى غاية سامية في جو من الحرية في التغيير.. وهذه الرقابة الذاتية تنبع في الأساس من ارضاء الصحفي لضميره وذاته وأن يتحمل جيداً شرف رسالته الصحفية دون أي تأثير أو مراعاة الاعتبارات والتوجيهات السياسية والاجتماعية والثقافية إلى حد ما في أدائه لعمله.. أما الرقابة الذاتية ذات البعد الديني فهي في نظر الكاتب الرقابة الذاتية التي تنبع من داخل كل منا كاتباً أو محرراً أو مسؤولاً بل لا مغالاة في القول إذا كان الأمل هو أن تمتد لكل أفراد الأمة وأن يتقي كل منا الله سبحانه وتعالى فيما يقول وما يفعل وأن تكون هناك اعتبارات مهمة نصب أعين الجميع متمثلة بمصلحة الأمة ورعايتها والحفاظ عليها وأن نتحلى جميعاً بالأمانة والصدق في السلوك والحياة الخاصة والعامة. الرقابة الذاتية السلبية وعدم خدمة الحقيقة:- الرقابة الذاتية هي مصطلح يعنى في باطنه تدجين الصحفيين ويهدف إلى تربية جيل من الصحفيين مقلمي الأظافر والأقلام يخدمون الواقع القائم أكثر مما يخدمون الحقيقة. أما ما يصنف على أنه ايجابي في قضية الرقابة الذاتية فما هو إلا ظاهر المشكلة الذي يحتل معاني الحفاظ على القيم الدينية والعادات الاجتماعية أو حماية توجيهات الدولة الخارجية.. والمشكلة التي تواجهنا الآن: أن الحرب ضد الرقابة بشكل عام واضحة المعالم (وتتجلى ذلك في صحافتنا السودانية)، بينما المعركة ضد الرقابة الذاتية غير معلنة حيث يشعر الصحفي بخذي ومذلة قد تقوده إلى مرحلة خطيرة هي مرحلة الانفصام كما يقول المؤلف، والتوجهات والسياسات التي تحد من انطلاقة الصحفي قد تأتي من الحكومات أو من رؤساء التحرير وفي الغالب لا تنفصل توجهات رؤساء التحرير عن السياسات العامة للدولة.. ويمكن أن يضاف إلى السياسات الحكومية وتوجهات بعض رؤساء التحرير آراء ومصالح الناشرين والمالكين الذين تعج بهم صحافتنا وبعضهم يجمع بين الملكية ورئاسة التحرير (وهو الكل في الكل) يتدخل في كل كبيرة وصغيرة.. الرقابة الذاتية من الناحية الواقعية هي قيود وأفكار غير محسوسة ولكنها تشكل المرجع الأساسي للصحفي في تقويم عمله ومن خلالها يتحقق التوازن بين قيم الصحفي ومبادئه والظروف التي يعيش فيها والضغوط الواقعة عليه بحيث لا يفعل ولا يقول إلا ما تكون نفسه راضية عنه وهي عين الصحفي التي ترصد ما ينشره ولا تسمح بنشر ما لا يتفق مع الخط العام للصحيفة أو المجلة. والسؤال هو كيف تستمر العملية الصحفية؟ الاستمرار يكون بدافع الحاجة المادية لا الاقتناع الكامل أو شبه الكامل بصحة ما يكتبونه. والكاتب يقع في بعض الافتراضات الخاطئة عندما يخلص إلى أن الرقابة الذاتية تعيش في عصرها الذهبي بعد الانعدام شبه الكامل للرقابة المباشرة في عملية مراقبة الموضوعات الصحفية قبل النشر. أو بالتحديد قبل ممارسة الكتابة خوفاً من الوقوع في المحظورات وبخاصة ما يتصل بالمجال السياسي، علماً بأن الدراسة لا تقتصر على الصحافة المصرية وحدها وإنما الصحافة في كل العالم العربي. ويرى أنه من الضروري أن تكثف الجهود لتعديل قوانين المطبوعات المعمول بها في البلاد العربية لتتجاوز الظروف والمعوقات لنقد الممارسة السياسية ومناهضة الظروف الاجتماعية والاقتصادية ليتحمل الصحفي نبل شرف رسالة الصحافة بالدفاع عن حقوق المواطنين والقراء والمصالح العامة والأمة. ويأخذ على قانون المطبوعات الحالي في الدول العربية (بلا استثناء تقريباً) انبثاقه وبشكل كبير من القانون العثماني القديم ، وهو يبدو وبكل أسف من خلال هذا المنطلق شوكة معترضة في حلق أي صحفي أو كاتب يريد أن يتفوه بالحقيقة. وإن أي خروج على هذه القوانين يجعل الصحفي متهماً أمام السلطة التنفيذية لا القضائية ويعتبر ذلك تطاولاً على أمن الدولة والصحفي العربي من خلال هذا الواقع المر مستنفر وبشكل دائم للرقابة الذاتية فهو منتظر أن يقرأ كل ما يكتبه بعين الرقيب المتصلة برأس السلطة لا بعين الحقيقة.. وهذا يقود إلى ما ذكره الباحثون حول خطورة الرقابة الذاتية باعتبارها أخطر أشكال الرقابة.. وبالعودة إلى ما ذكره المؤلف عن قانون المطبوعات العثماني وأثره في البلاد العربية بما في ذلك السودان فإننا نقول ان العثمانيين لم يحصلوا اصدار قانون للمطبوعات في السودان الذي شهد أسوأ قانون للصحافة في عام 1931م أصدره الاستعمار الانجليزي وظل ذلك القانون المهين لكرامة الانسان السوداني سارياً إلى يومنا هذا ولم يعدل إلا تعديلاً طفيفاً لم يشمل جوهره ومازالت قضايا بالملكية ولا باشراف الدولة على المطبوعات تطل برأسها في القوانين السودانية وهو رغم قصوره لم يكن هو الوحيد الذي يبت في قضايا النشر والصحافة وإنما هناك قوانين أخرى للبت فيها مثل قانون الأمن الوطني وغيرها من القوانين المعروفة بتقييدها للحريات الصحفية.. وما ذهب إليه الدكتور الشمري في دراسته حول الحرية الإعلامية وقضية الرقابة الذاتية التي يفرضها الصحفيون على أنفسهم لا نجد لها تفسيرا إلا في المثل العامي السوداني الذي يقول (الخواف ربى عيالو).