وصلت الدوحة بداية الأسبوع الماضي بدعوة كريمة من الاخ د. غازي صلاح الدين رئيس وفد التفاوض مع الحركات المسلحة الدارفورية بالدوحة، وللحقيقة كنت قد اخترت ممثلاً لحزب الأمة القومي في المفاوضات، ولكن بعد دراسة الحزب للأمر من كل جوانبه رأى الاعتذار عن المشاركة، لأسباب مقنعة ذكرها لي السيد رئيس الحزب الإمام الصادق المهدي، ورأيت فيها الوجاهة والحجة، فقدمت اعتذاري عن المشاركة في المحادثات باسم حزب الأمة القومي هاتفياً للسيد رئيس وفد التفاوض من قبل الحكومة د. غازي صلاح الدين، ولكن جاءتني مكالمة هاتفية مساء الجمعة قبل الماضي تدعوني فيها الذهاب إلى الدوحة بصفتي الشخصية بدعوة من الدكتور غازي، فلم أتردد لحظة في تلبية الدعوة، لاني آثرت على نفسي ألا أبخل برأي يساعد في حل مشكلة دارفور، وهذا ما جعلني استجيب لأن اكون مستشاراً للحركات المسلحة في ابوجا، عندما جاءتني الدعوة من الاتحاد الإفريقي، ودفعنا في ذلك ثمناً غالياً في المفاوضات من إهدار للوقت وغياب عن الأهل والأولاد، وكذلك اهمال المصالح، وفي النهاية جاءت نتيجة ابوجا على غير ما نرجو. والآن عندما جاءتني الدعوة، سبقتني الى الدوحة آمالي العريضة في أن تنهي الدوحة مسلسل الآلام والأحزان السوداني في دارفور، لعبقرية المكان، وحيادية النظام في قطر واتزانية الشخصية التي تمسك بالملف هنا، وهو الوزير آل محمود. ولم تقف آمالي إلى هذا الحد، بل أن الوضع العام في دارفور والمحور الاقليمي سواء ليبيا او تشاد او غيرهما، اتجه صوب وجوب الحل السلمي، لأن القضية قد وصلت مداها كالحجر الذي القى في البئر فلا خيار له غير الوصول الى القاع، اضف الى ذلك ضغوط المجتمع الدولي المكثف لإنهاء الأزمة والجهود المبذولة من الوسيط المشترك الداعية الى توحيد الحركات بغية تكوين فريق مشترك لمجابهة وفد الحكومة. ولكن وبعد وصولي الى الدوحة وبعد مقابلتي لمعظم قادة الحركات في فندق الشراتون، احسست ان آمالي ذهبت اكثر من اللازم في التفاؤل، فالتوحيد لا زال أملا يحبو، وظل جواده يكبو رغم جهود الخيرين التي عمت معظم البلدان ما عدا اليمن والشام، وهذه هي معضلة التفاوض الآن، فليست المعضلة ماذا تعطي الحكومة للحركات استحقاقا للسلام، وانما المعضلة الآن وللأسف الشديد كيف تتوحد الحركات، ولأن كثيراً من القراء لا يعرفون الى كم جهة انقسمت الحركات فنقول ان الحركات تنقسم الآن الى اربع مجموعات تتفاوت اوزانها طرحاً وضداً وواقعاً في الميدان، هي: مجموعة طرابلس، ومجموعة اديس ابابا بما في ذلك مجموعة غرايشن لتوحيد قبيلة دارفور، ومجموعة العدل والمساواة «خليل» ومجموعة تحرير السودان «عبد الواحد». وهمنا كله الآن توحيد هذه الحركات للتحدث باسم فريق واحد، الامر الذي ترفضه العدل والمساواة للتخوف من تجارب مريرة سابقة، فهم يطلبون الآن حركة واحدة تفاوض باسم دارفور حتى اذا دعا الامر الى ان يتنازلوا هم عن اسم العدل والمساواة، والآخرون يشكون في الاندماج مع العدل لبون الفكر الشاسع الذي يبعد بينهم والتخوف غير المرئي من جاهزية العدل للاستمساك بمفاصل الجسم الجديد وان تغير اسمه. اما مجموعة عبد الواحد التي ظلت تشك في اي شيء، فقد شكت في كل هذه المجريات لا سيما اذا ربطنا ذلك بتحركات غرايشن الاخيرة التي يمكن ان نقول عنها قبلية، وكأنها معول هدم لحركة عبد الواحد بعد تلكؤ الاخير في الاستجابة للجلوس مع الحكومة. هذا هو الحال حتى الآن.. ومن يدري لعل الله يحدث امرا في الساعات القليلة القادمة، فالقلوب بين اصبعين من اصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء. أما بالنسبة للوفد الحكومي ومن ناحيته التكتيكية والاستراتيجية وبصفتي مراقباً للاحداث سابقاً ولاحقاً، فإن المخرجات الحكومية سابقاً في مراحل ابوجا المختلفة ليست حريصة على وحدة الحركات، وحريصة اكثر على التوقيع مع اي فصيل من الفصائل الثلاثة، خليل، مني، عبد الواحد للضغوط الواقعة عليها من المجتمع الدولي الذي يرغب في دخول عسكره الى دارفور، ولكي يدخلوا لا بد من توقيع اتفاق سلام حتى تدخل قوات حفظ السلام. فإن لم يكن هناك اتفاق سلام فكيف تدخل قوات حفظ السلام، فكان مني اركو الصيد الذي اصطيد قربانا للسلام ودخول الجند. الآن استراتيجية الحكومة هي العكس تماما، وهي الرغبة في تجميع الحركات، والرغبة في توقيع اتفاق واحد مع الجميع، ولكن هل كل ما يتمناه المرء يدركه؟! لانه ليست عليها ضغوط بالخروج باتفاق من جهة واحدة لتسهيل مهمة دولية أخرى. والآن هناك معضلتان، الاولى عدم مشاركة الجميع في مفاوضات الدوحة، اقصد القوى الوطنية كلها الحاكمة والمعارضة، واعتقد ان مجموعة جوبا ترغب في المشاركة في المفاوضات، ولا ادري الى اي مدى استجيب لذلك؟ وأرى من الضروري مشاركة هؤلاء للأسباب الآتية: أولاً: القضية وطنية تهم الجميع، ويجب ألا نكرر اخطاء نيفاشا الثنائية، وابوجا الاقصائية، ثانياً: حتى إذا وُقع اتفاق فالذي ينفذه النظام الجديد الذي ستفرزه الانتخابات، فكيف ببرلمانيي الامة والشعبي والشيوعي والآخرين من الاحزاب الاخرى غير الممثلة في التفاوض الآن، اذا ما حظوا بدخول البرلمان، كيف يدعمون هذا الاتفاق الذي لم يكونوا جزءاً من سير تفاوضه. والمعضلة الثانية توقيت الزمان ليس مناسبا، لأن الانتخابات لم يتبق لها إلا اقل من شهرين، فلنقل اننا وقعنا اتفاقا في الثلاثين من مارس القادم وذهبنا بالحركات الى مطار الخرطوم، كيف نجد لهم التمثيل السياسي والبرلماني الذي سيحسم بالشعب، ولا طريق لاضافة برلماني واحد كما فعل المؤتمر الوطني عندما طلب من بعض اعضائه التنازل من مناصبهم البرلمانية لموقعي اتفاق ابوجا.. فهذه الاريحية غير موجودة في البرلمان الجديد. فالسؤال الذي يطرح نفسه ما هو بديلنا السياسي للموقعين الجدد في النظام السياسي الجديد الذي تفرضه انتخابات ابريل القادم. وعلى كل فالسياسة فعل الممكن، والكرة الآن في ملعب الحركات أكثر من الحكومة، لأن امامهم خيارين.. التفاوض مع حكومة موازنات قامت وعاشت على اثر ذلك، فيممكن تقتطع من وزارة لتكون وزارتين، البئية وزارة، السياحة وزارة، النقل والمواصلات وزارة اخرى، التربية والتعليم وزارة أخرى، لترضية توازنية سواء سياسية او جهوية او قبلية. وحكومة المرونة ممكن تستجيب لأكثر من ذلك للم الشمل، والخيار الثاني حكومة منتخبة مربوطة بلوائح وقانون ودستور، وربما تبرز فيها شخصيات «صقورية» لها أولويات أخرى غير المعنية قدما في توقيع اتفاق مع أبناء دارفور، ولا ننسى أن يفرز الانتخاب حكومة جادة تضع ضمن اولوياتها مشكلة دارفور ووجوب حلها، فكل هذه الخيارات مفتوحة اكثر لحركات دارفور التي اقتنصت الفرصة القطرية للحضور للدوحة للتفاكر في هذا الأمر. وفي الأخير أذكر الجميع بمعاناة الأهل في دارفور الامنية والاجتماعية والاقتصادية، فالخريف هذه المرة ليس على ما يرام، لذلك المجاعات على الابواب، وهذا يتطلب الاسراع في حل المعضلة الدارفورية باية صورة، دون النظر للاعتبارات السياسية الأخرى التي يتخيلها البعض. وفي الختام تقديري واحترامي لدولة قطر برئاسة أميرها حمد ووزيرها آل محمود، للدور الكبير الذي لعبوه، والكرم العربي الأصيل الذي طوقوا به اعناق الوفود السودانية، وكأنهم لم يعبأوا بقول شاعرهم القائل: «الجود يفقر والإقدام قتال» بل استأنسوا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: «ينزل ملكان كل صباح يقولان اللهم اعط منفقا خلفا واعط ممسكاً تلفاً».