عام 1965 توجهت إلى مدرسة خورطقت الثانوية معلماً بها لأول مرة في حياتي، فإذا بي وسط واحة من الخضرة والهواء النقي والعلم الصريح وزمرة من المعلمين يقودهم الشاعر الملهم عبد الله الشيخ البشير -رحمه الله -وأحمد عمر يعقوب السيد محمد، شقيق الخليفة عبد الله خليفة الامام المهدي وحشد من المعلمين الشباب يقودهم المرحوم الدكتور آدم أبو الرجال عليه الرحمة.. ثم ثلة من الطلاب ذوي الميول المختلفة وأصحاب ما يسمى «باللهيب» الذي كنا نجده معلقاً على أبواب مكاتبنا في الصباح الباكر ينتقدون فيه «كل مائل» في المدرسة العتيقة حتى معلميها الذين ربما يرون أنهم يتنكبون قليلاً عن الدرب.. كانت الأجواء معبقة بالأدب والمسرح الهادف والذكاء اللماح الذي امتاز به طلاب خورطقت الثانوية والرياضة والعلاقات الاجتماعية التي تضمنا خاصة نحن شباب المعلمين الذين أقمنا معهم ضباطاً للداخليات في هذا الجمع الطيب الرحيب. كان يقبع في وسطهم عبد الرسول النور، الطالب آنذاك بخورطقت الثانوية التي ضاعت من بين أيدينا بفضل ما يجري في مسار التعليم هي واخواتها حنتوب ووادي سيدنا وعطبرة وبورتسودان. لم أكن أعرف عبد الرسول ولا زميله د. بشير عمر والذي أصبح فيما بعد وزيراً للمالية وأصبح تلميذنا عبد الرسول قطعة من تاريخ بلادنا الذي امتلأ بالمآسي والأتراح والأحزان. وعبد الرسول كان ذا وعي وذاكرة قوية فهو الذي ذكرني عندما التقيت به في ود مدني عام 1982 بأنه كان طالباً بخورطقت عندما فاز بحثي المقدم في أعياد ثورة اكتوبر 1965 والذي ضم تجربتي في ثورة اكتوبر وأنا أشغل رئاسة اتحاد المعهد الفني «جامعة السودان حالياً». ثم يصبح بعد ذلك التلميذ حاكماً لكردفان الكبرى بعد أن دار به الزمان وانقلب عليه ردحاً من الزمان. لقد ضم عبد الرسول إلى جنبيه مفردات من التاريخ والأحداث الجسام لو مرت على آخرين ربما اتهدمت همتهم وخارت عزيمتهم مما لاقوه. فعبد الرسول كان رقماً مع اخوانه الطلاب في الهبة الكبرى التي قادها الشهيد محمد نور سعد وتلقى عبد الرسول رغم صغر سنة حكماً بالإعدام شنقاً خلصه الله منه بأعجوبة. عبد الرسول يحكي هذه الأيام شذرات من علاقاته الحميمة بالمرحوم د. عمر نور الدائم في كلمات حزينة ومعان قيمة وتفاصيل تنبع منها الحقيقة للكفاح الثر الذي خاضه الدكتور الفقيد وخاضه معه عبد الرسول النور لعل شباب اليوم يستقي من تلك السطور ما يزيد من همته وخبرته، ويشد من عضده ويقوي من شجاعته. رغم ذلك عبد الرسول لم يتغير وهو يقابل محنة الإعدام، وفقد زوجه، ثم يرجع مرافقاً لزملائه ليصبح حاكماً لكردفان. لازال في ضحكاته الهادئة، ونكاته الظريفة وأشهرها عندما التقى بالعمدة صديق شقدي بجزيرة الفيل فأخذه شقدي إلى الجنائن فوجدا أرتالاً من الأبقار المميزة داخلها فخالطه خيال البقارة فالتفت إلى العمدة قائلاً: «يا عمدة أهلنا لما رجعوا من كرري زمن خليفة المهدي ذهبوا للغرب لكن تركوا أملاكهم من البقر في أم درمان أنا خايف يكونوا ديل من نسلهم». وهكذا ظل عبد الرسول حتى فاجأنا نحن الأنصار وحزب الأمة بالابتعاد الهادئ. لقد اختلف في ابتعاده عن الآخرين فهو لم ينضم لحزب من الأحزاب ولم يقم منتقداً ومتحدثاً عن ما في داخله وقد أصابنا نوع من الحزن العميق لفراقه، فعبد الرسول كادر أنصاري لم يخلع عمامته ولم تفارق الجبة لحم جسمه الرقيق ولم يتخل عن قضايا وطنه. كنت أظنه قد فارق ساحته القديمة إلى الأبد إلا أنني في احدى رحلاتي من ود مدني عندما كنت أعمل فيها لأخي الامام الصادق فإذا بي أجد عبد الرسول يجلس معه في خلوة أظنها جلسة كانت من إحدى الجلسات التي لم يتخل عنها فجلست خارجاً عن المجلس وأنا أفكر في أحاسيس هذا الرجل الذي اختط لنفسه خطاً متفرداً في علاقته بإخوانه بعيداً عن جو الخلاف السياسي. ظللت أتابع حلقات عبد الرسول النور بصحيفة المجهر عن د. عمر نور الدائم وعن تفاصيل أخطر الحقب التي مرت على السودان، واشتقت إليه واتصلت به فإذا به يفاجئني «أهلاً بأستاذي ومعلمي». هذا هو عبد الرسول لم يتغير عاتبته أنه لم يخصص أياماً له ليكتب عن تجربته التي يطلع عليها فإذا به يفاجئني بأنه قد جاء للخرطوم لفترة لأنه قد انقطع للزراعة في فيافي كردفان. أقول ما لنا خاصة طلابنا ودارسينا وأساتذتنا ومؤرخينا يهملون تاريخنا ناقلين له من صناعة أمثال عبد الرسول النور والثلة التي ذكرها في آخر مقاله من الذين ذاقوا السجون والتشريد. إن قصة ليلة واحدة قضاها عبد الرسول النور يوم أن حكم عليه بالإعدام تكفي بأن تخرج للأجيال كتاباً من الأحاسيس والهمة العالية والساعات الحرجة التي تمر بعمر الانسان. فأعجب أن يبخل بها عبد الرسول على القراء، وأعجب أن يبخل بها أمثال غازي صلاح الدين الذي نسمع عنه شذراً بما فعله في ذلك اليوم وأمثال آخرين وعلى رأسهم الامام الصادق المهدي وغيره من الذين خاضوا أهوال السياسة السودانية التي امتلأت بالعجيب من المفارقات، فهلا خلوا إلى أنفسهم ليذكروا قليلاً عن تجاربهم. إن فخري يزيد ويكبر أن يكون ذلك الرقم عبد الرسول النور أحد تلاميذي وبتلك المدرسة التي طبقت سمعتها الآفاق، وأسأل الله أن يعيدها سيرتها الأولى.