د. صلاح محمد إبراهيم: أن تعود طائرة رئيس الدولة إلى الخرطوم بعد مغادرتها لعدة ساعات بسبب خطأ في الإجراءات المتعلقة بعبور أجواء دولة أخرى ليست أمراً بسيطاً وعادياً يمكن أن يمر دون حساب، وأن تعود طائرات الرئيس بعد أن منعت من عبور أجواء دولة صديقة وشقيقة مثل المملكة العربية السودانية مسألة تستدعي التوقف عندها وفحصها بحساب دقيق مهما كانت الأسباب، وأمر جلل وغير عادي ويحتاج لتفسير وتوضيح مقنع، ولا أريد أن أتناول الجوانب السياسية المرتبطة بهذه الحادثة، إذ ليس هناك ما يشير إلى علاقتها بطريقة مباشرة بهذا الأمر خاصة بعد أن رشح أن الأمر له علاقة بالعلاقة مع إيران، وأعتقد أنه على الرغم حساسية هذا الملف السوداني الإيراني، فإن المملكة العربية السعودية متفهمة لطبيعة العلاقات السودانية الإيرانية، وإذا ما كانت المملكة لديها تحفظ على هذه العلاقات فالملكة تعلم كيف تعبر عنها من خلال القنوات الرسمية، والمملكة تعلم مكانتها في السودان وتعلم أن السودان يكن لها كل الاحترام وتعلم أن مصالح السودان مع المملكة تحظى بالأولوية لاعتبارات كثيرة ليس هذا مكان ذكرها. وجاء في بيان الطيران المدني السعودي ما يفهم منه أن الطائرة الرئاسية لم تحصل على إذن لعبور الأجواء السعودية، ونفت سلطات الطيران المدني السوداني ذلك، وأكد السفير السعودي بالخرطوم أن سبب عودة الطائرة يعود إلى خطأ في الإجراءات المتبعة في مثل هذه الأحوال. الطائرات الرئاسية تتجول وتتحرك في العالم وفقاً لخطوط سير يتم تحديدها بدقة، وقد سبق أن كتبت من قبل عن حادثة تعرضت لها طائرة الرئيس، وقلت أن الطائرات الرئاسية ليست نعوشاً طائرة ويجب التعامل معها بضوابط وإجراءات دقيقة وصارمة لأنها رمز لسيادة الدولة وعلمها، وهي تحمل على متنها الشخصية السيادية الأولى في الدولة، وهكذا تفعل كل الدول التي تخصص لها طائرات بمواصفات خاصة تمكن رئيس الدولة من ممارسة مهامه العادية خلال فترة الطيران، ويمكنه أن يعقد الاجتماعات ويصدر القرارات ويتابع شؤون الدولة من مقعده في الطائرة. وعندما كنا نعمل في سفارة السودان بالقاهرة في بداية عهد الإنقاذ كانت وزارة الخارجية مازالت تحتفظ بالكثير من الدبلوماسيين المحترفين، ولاحظت في بعض الأوقات أن السفارة تعمل على إجراء اتصالات عاجلة مع وزارة الخارجية المصرية للحصول على إذن من الطيران المدني المصري لعبور طائرة رئاسية قادمة من السودان عابرة الأجواء المصرية، وفهمت من خلال التجربة أن إجراءات عبور الطائرات الرئاسية تتم عبر القنوات الدبلوماسية، أى أن يتصل الطيران المدني السوداني عندما يعلم أن هناك طائرة رئاسية سوف تقل الرئيس بوزارة الخارجية السودانية، ثم تقوم وزارة الخارجية السودانية بمخاطبة سفارتها في الدولة التي ستعبرها طائرة الرئيس، لتقوم بدورها بإخطار خارجية ذلك البلد لأخذ الإذن من الطيران المدني لذلك البلد، وبعد الحصول على الإذن تقوم السفارة السودانية بإخطار الخارجية في الخرطوم لتقوم بإبلاغ الرئاسة والطيران المدني السوداني، وبذلك يسمح للطائرة بمغادرة مطار الخرطوم، وربما يكون هذا ما فهمته من خلال التصريح الذي أدلى به السفير السعودي بالخرطوم، وهو أن الإجراءات المتبعة في مثل هذه الحالات لم تتم. ولكن من التساؤلات التي تثيرها هذه القضية هو أن تلك لم تكن هي المرة الأولى التي تعبر فيها طائرة الرئيس السوداني أجواء المملكة العربية السعودية، فكيف كانت تتم إجراءات العبور؟، ولا بد أن تكون هناك طريقة قد اتبعت في الماضي للحصول على ذلك الإذن، إذ لا يعقل أن تغادر الطائرة مطار الخرطوم دون الحصول على إذن من السلطات السعودية، أو الانتظار حتى تصل الطائرة إلى نقطة الدخول إلى الأجواء السعودية للحصول على ذلك الإذن، والأمر هنا لا علاقة له بما إن كانت الطائرة مستأجرة أم لا، طالما أنها تحمل علم الدولة السودانية. لذلك تظل قضية هذه السفرية تتطلب المراجعة والفحص لمعرفة على من كانت تقع مسؤولية عبور طائرة الرئيس لأجواء المملكة العربية السعودية أو أية دولة أخري، هل هي مسؤولية وزارة الخارجية التي تقوم بتأمين إجراءات العبور عن طريق سفاراتنا في الخارج، أم هي مسؤولية الطيران المدني السوداني الذي يتصل بالطيران المدني في الدول الأخرى التي ستعبر الطائرة أجواءها، وفي اعتقادي أن الأمر المنطقي هو أن المسؤولية مسؤولية وزارة الخارجية وليس الطيران المدني، كما أنه ليس مسؤولية الشركة المستأجرة منها الطائرة طالما أن الطائرة تحمل رئيس الدولة وعليها علم الدولة، فالطيران المدني ليس مسؤلاً عن إدارة شؤون الدبلوماسية، وزيارة الرئيس للدول الأخرى شأن دبلوماسي تديره وزارة الخارجية، وتتولى كل ترتيباته منذ لحظة البدء في الإعداد للزيارة وبرنامجها ومدتها وكل تفاصيلها، وتشمل تلك التفاصيل ساعة المغادرة وترتيبات هبوط الطائرة في المطارات الأخرى والأجواء التي تعبرها وعودتها، فهل كانت الخارجية السودانية غائبة عن ترتيبات السفر في هذه الرحلة؟ وهل كان لدى الخارجية ما يفيد من سفارة السودان بالمملكة العربية السعودية بأن العبور للأجواء السعودية تم تأمينه؟ بل هل قامت الخارجية السودانية بالاتصال بسفارتنا في المملكة لطلب هذا الإذن بالعبور؟ وفي كل التصريحات التي صدرت من الجانبين السوداني والسعودي ترك الأمر لتصريحات صدرت من سلطات الطيران المدني في البلدين، ولم تتدخل وزارتا الخارجية في البلدين في الأمر ، وربما كان ذلك يعود لحساسية العلاقة بين البلدين وعدم تضخيم الأمر وإعطائه بعداً يمكن أن يمس علاقات الدولتين، وهو أمر جيد، ولكن علينا كما قلت مراجعة أمر سفريات الرئيس مراجعة يؤخذ فيها بقواعد البروتكول والإجراءات المتعارف عليها بين الدول، وربما تكون كل تلك الإجراءات التي ذكرتها قد اتبعت، ولكن صمت الخارجية في كل من الخرطوم والرياض يظل أمراً محيراً إلا من خلال ما عبر عنه السفير السعودي بالخرطوم وربط الأمر بأنه خطأ إجرائي ولكن لم يقل من هو المتسبب في ذلك الخطأ، وهو بحكم صفته الدبلوماسية لا يستطيع الإفصاح أكثر من ذلك، كما يبدو أن الجانب السوداني قد تفهم الأمر وقبل التفسير السعودي وهو أمر متوقع من خلال علاقة البلدين. ولاحظت أن وزير الخارجية السيد علي كرتي يقوم أخيراً بمراجعات في وزارة الخارجية وكوادرها وهو أمر جيد، ومن المؤكد أن المراجعة تشمل العديد من جوانب العمل الدبلوماسي، خاصة أن العديد من السفراء الحاليين دخلوا الخارجية من البوابة السياسية، والعديد منهم والذين عاصرتهم في القاهرة وليس كلهم لم يكن يتقيدوا بقواعد العمل الدبلوماسي بحكم حداثة عهدهم بالخارجية، وارتباطهم بالعمل السياسي، وأذكر أن السفير المرموق عز الدين حامد قد اضطر لنقل أحدهم بسبب عدم التزامه بقواعد العمل، وكان ذلك يعود لقلة خبرته وعدم انصياعه للتوجيهات.