لو كنت في موقع من مواقع المسؤولية في دولتنا، لجعلت هذا اليوم يوم 2 سبتمبر 8981م يوماً من أيام بطولات أهل السودان، ولحعلت منه درساً تتعلم منه أجيالنا معاني الوطنية والشجاعة والاقدام، ولحثثت دارسينا وطلابنا على التنقيب عن ذلك اليوم الذي توحدت فيه إرادة شعبنا كما لم تتوحد يوماً من الايام. في تمام الساعة العاشرة صباحاً كانت المعركة تلفظ أنفساها الاخيرة.. الآلاف تمددت حول السهل الممتد بين جبل أبو زريبة وجبل سركاب، فقد حصدت المدافع أشجع الرجال الذين سطروا أروع المواقف في قدير وشيكان والخرطوم، ثم قدموا أرواحهم فداءً للدين والوطن.. في تلك الساعة فتح الجنرال ماكدونالد الزريبة التي كان يحتمي بها، وبدأت سواري جيش العدو تتسرب خارجها، لقد كان شهداء الراية الزرقاء الذين شنوا الهجوم الأخير يملأون بطن الساحة الممتدة بين جبل سركاب وجبل ابو زريبة مد البصر.. ألوان زاهية من الجباب الحمراء والزرقاء.. أكثرهم مازالوا يجودون بأنفاسهم الطاهرة وعلى صدورهم سبحاتهم اللولابية الطويلة.. لقد اطمأن العدو بعد هذه المجزرة التي كتبت عنها الصحف العالمية حتى جف مدادها. وما أن اكتمل خروج السواري وبدأت صفوف العدو خارجة من الزريبة، فاذا جبل أبو زريبة ينفتح فجأة عن أربعمائة فارس يقودهم الأمير أحمد عبد الجليل في أقصى سرعة لم تشهدها خيول قبيلة «دغيم» من قبل.. وأحمد عبد الجليل يصيح صيحته المشهورة «جر.. يا عبد القيوم» إشارة إلى حامل الراية الخضراء الذي كان يجهد من خلفه.. كانت القيادة من خلف جبال كرري تنتظر هذه اللحظة التي عولت عليها كثيرا فمازالت قوات «دغيم» الشرسة لم تبدأ الهجوم وكانت تنتظر انضمام جيش الملازمين الذي كان يقوده الأمير عثمان شيخ الدين لينضم اليها، إلا أن الملازمين تأخروا لانشغالهم بمطاردة فصيل من العدو شمال الزريبة.. فأطلق عبد الله أبو سوار وأحمد عبد الجليل عقال الراية الخضراء عندما شاهدوا العدو يتسلل خارجاً من الزريبة.. ولم تشاهد طلائع قيادة الخليفة إلا أحمد عبد الجليل ذا الشعر الكثيف الذي اخترق جله مسمامات جبته الدمور.. لم تكن «دغيم» وحدها في ذلك الزخم بل كان «اللحويون» و«الشانخاب» يتسابقون تحت راية عبد القيوم الخضراء.. على رأسهم أحمد ود برجوب الذي طبقت شهرته جل معارك المهدية.. وحاول الأمير البشير عجب الفيا اقناع أحمد ود برجوب بالتأني إلى حين وصول الملازمين.. وصاح فيه أحمد «إحنا ناس بيعة مانا راجعين». وما أن شاهد «ماكدونالد» ذلك الاندفاع الرهيب حتى بدأ يغير اتجاهه رجوعاً الى الزريبة، وما أن اتجه ناحية الجنوب الغربي إلا ويفاجأ بصيحة الأمير جابر أبو شليخاب يقود ما لا يقل عن ثمانمائة مقاتل من جيش الملازمين الذي وصل للتو لتنضم مقدمته مع هجوم الراية الخضراء.. وكان اندفاع جابر ساحقاً ومجلجلاً.. جابر من الذين التقوا بالإمام المهدي وهو في طريقه من الجزيرة أبا الى جبل قدير.. لقد كان اسم الإمام وسمعته تئز في صدره الملول حتى ارتوى برفقته.. لقد انفصل سريعاً من جيش الملازمين.. لم يمض ربع الساعة من انطلاق راية جابر إلا وكان بجوار أحمد عبد الجليل.. وانضم الفرسان الى بعضهما.. انضم أعظم وأشجع فارسين من فرسان الأنصار إلى بعضهما البعض «أب جكة» طليعة مجلس القيادة من أعلى جبل كرري يشاهد المنظر يصيح مهللاً بانضمام جابر وأحمد عبد الجليل ويسرع إلى معسكر الخليفة ليخبره بهجوم الراية الخضراء والملازمين. وأفلح ماكدونالد في الدخول إلى الزريبة إلا أن مؤخرته مازالت تزحف بمعداتها الثقيلة ولم تصل الزريبة بعد.. لقد هاله الغبار الذي أخفى مقدمة أحمد عبد الجليل وجابر.. وسرعان ما انضم إلى جابر كل من الأمراء رابح الحبشي وعثمان آدم وفضل بشارة، بينما تساوى الأمير إبراهيم جبير نداً قوياًَ مع أبو شليخاب. الغبار كان كثيفاً عندما بدأت المدافع تصوب رصاصها نحو دغيم والشانخاب واللحويين، إلا أن داناتها طاشت لتقع عند سفح جبل أبو زريبة الواقع خلف الانصار المندفعين عندما أصبح جابر والملازمون على بعد «002» ياردة فقط من مؤخرة ماكدونالد.. افترق الملازمون عن الراية الخضراء.. كانت الراية الخضراء تحمل حراباً صغيرة وسيوفاً مصقولة ليس لها الا الالتحام بمؤخرة ماكدونالد، اما جابر والملازمون فقد كانوا من أصحاب الأسلحة النارية.. وما أن صار على بعد «002» ياردة حتى استوى على الارض وملازموه أجمعهم، وبدأت زخات الرصاص تخترق الزريبة حتى موقع ماكدونالد.. وكان الملازمون مدربين تدريباً حديثاً، وبدأت صفوفهم تزحف مثل الثعابين القاتلة في صمت لا يقطعه إلا صوت جابر الجهوري مردداً كلمة واحدة «جوِّد.. جوِّد». فوجئ العدو وهو يقابل شراسة دغيم واللحويين والشانخاب وكنانة.. لقد كان أحمد عبد الجليل يسرع وكأنه يسابق في سهل قريته.. كان راضياً قوياً لا ينطق إلا بالشهادة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».. وتدافع العدو إلى الداخل وأطلق ماكدونالد ووشوب الرصاص ليصيب الصف الأول من الملازمين ولتصيب جابر وهو على أطراف الزريبة. ولم تتمكن صفوف ماكدونالد من الدخول كلها للزريبة، ويبدو أنه قد أهملها، فقد كان منظر الراية الخضراء فقط في اندفاعها كافياً لتسريع دقات قلبه.. إنهم محاربون جبناء ليس لديهم إلا تشغيل النيران السريعة.. لقد التصق فرسان الراية الخضراء بمؤخرة ماكدونالد وانطلقت الهتافات من الحناجر، لقد وقعت الفريسة بين أيدي الشانخاب واللحويين ودغيم وكنانة، وأبلى عبد الله أبو سوار ومحمد مخاوي وبابكر ود عامر بلاءً حسناً.. لقد امتلأت عيونهم عن قرب بالعدو.. وتبدأ معركة شرسة بالرماح والسيوف.. لقد أصبح العدو تحت رحمتهم والهتاف المستميت ينطلق من الحناجر.. يقول زلفو رحمه الله: «لولا لواء ووشوب الذي تحول بكل آلياته لما استطاع ماكدونالد ان ينجو من دغيم واللحويين والشانخاب والعمارتة وكنانة ورفاعة» الذين كانوا يتبخترون وسط الطغاة فرحين.. وازدادت زخات الرصاص وصارت المجاميع تسقط كحبات السبحة لتتحقق كلمة أحمد عبد الجليل «إحنا ناس شهادة دايرين نحفظ بيعة المهدي» سقطوا جميعاً.. ولكنهم ذهبوا بعيداً عن أذهان أجيالنا ومواقع تاريخنا المملوء فخراً وعزةً.