تترقب الأوساط السياسية ولادة حكومة جديدة من رحم حزب المؤتمر الوطني الحاكم لأكثر من عقدين من الزمان .. وكما هي الحال قبيل كلِّ تشكيل حكومي جديد، تواترت داخل أروقة الحزب الحاكم الاجتماعات التي تعقبها تصريحات إعلامية عن الإصلاح وفتح باب المشاركة لمن يرغب من أحزاب المعارضة وإتاحة الفرصة للشباب إلى غير ذلك من التصريحات المكرورة .. وتبعاً لذلك أهرق كثيرون مداد أقلامهم وأفاضوا في التحليل والتكهنات حتى لم يبق سوى استخدام أشعة "سونار" لتحديد نوع وملامح المولود المرتقب. واللافت أنَّ معظم التكهنات تتحدث عن تغيير الأشخاص وليس تغيير المنهج والرؤى والبرامج. وأياً كان الأمر، فقد شهدت البلاد خلال فترة حكم الإنقاذ ولادة العديد من الحكومات التي تصدق عليها مقولة "خمرةٌ قديمة في جرارٍ جديدة"ً، حيث ظلَّ نفس أفراد النخبة المسنودة يتبادلون المواقع والمنافع منذ عام 89 في مسيرٍ عبثي مأساوى لا زاد لهم فيه سوى فقر الخيال وانعدام الرؤية وحب للسلطة لا حدود له .. تزول الجبال ولا يزايلون مواقعهم، وكأنَّ الشجرة التي جعلوها شعاراً لحزبهم هي شجرة الخلد ومُلكٍ لا يبلى. تبقى الحقيقة الساطعة أنَّ الواقع السوداني أصبح مثقلاً بتراكم الأزمات لدرجةٍ تعيد للأذهان سؤال الكينونة الشكسبيري وتهدِّد بانهيار الدولة وانفراط عقدها، وأنَّ حكومةً يتم استيلادها من رحم هذا المؤتمر الوطني وبذات النهج الذي لا يعرف النقد والمراجعة والمحاسبة، لن تكون إلَّا كسابقاتها في العجز والفشل وحصاد الهشيم، ولن تزيد الأزمات إلَّا ضغثاً على إبالة، ولو كان الشاعر جيلي عبد الرحمن حياً لردَّد تساؤله البليغ: "ماذا تَلِدُ الهِرَّةُ سَوْدَاءُ الأبَوَيْنِ سِوَى هِرٍّ أَسْوَدْ؟" .. وليس هناك ما يحمل الشعب السوداني على التفاؤل إذا عاد أولئك الذين جرَّبهم أكثر من مرة ، اللهم إلّا إذا كان من الشروط الجديدة للوزارة أن يذهب المرشح لها - قبل أداء القسم - للاغتسال في بحيرة أخيلوس الأسطورية التي تعيد كل من يغتسل فيها إلى الرشد والطهرانية. لقد بلغ السيل الزبى واندفع الواقع إلى أقصى ما يمكن تخيله من رداءةٍ وضياعٍ واستنقاع، وتكسَّرت كلُّ المشاجب لفرط ما ناءت به من حمولة فقه الاختزال والإنكار والتبرير .. ولم يعد هناك متسعٌ من الوقت للمراوغة الثعلبية ومواصلة سياسة الهروب إلى الأمام وإعادة إنتاج الفشل بدمٍ بارد، ثم الركون إلى التفسير القَدَري للفشل بالحديث الممجوج عن الابتلاءات التي تعترض "المسيرة القاصدة". ولن يكون إلَّا تمادياً وإيغالاً في الخطايا إنْ ظنَّ أهل الإنقاذ أنهم مانعتهم حصونهم وتدابيرهم وتغافلوا عن إلحاح الوقت واستمروا في صمِّ آذانهم عن سماع أصوات الناس المُتعبين المقهورين، فلم يعد التدهور الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي يحتملان المزيد من اضطراب عقل السياسة .. وبركان الغضب الشعبي الذي يغلي تحت قشرة التدابير ، لن يزيده رفع الدعم الموعود إلَّا غلياناً، ولا بدَّ أن يصل درجةً يذيب فيها تلك القشرة، مهما كانت سماكتها، ويقذف بحممه إلى الشوارع. إنَّ كلَّ من حباه الله شيئاً من البصيرة يدرك أنَّ خارطة الطريق لعبور مستنقع الأزمات تتمثل في تفكيك دولة الحزب لمصلحة دولة الشعب ونبذ النهج القائم على الاقصاء واستبداله بنهج الاعتراف بالآخرين من ساكني الوطن، بكل أطيافهم ومشاربهم، والدخول في حوار صريح وجاد ومتكافئ ومتجرد يخاطب جذور الأزمات ومظاهرها في السياسة والاقتصاد والمجتمع ويخاطب مطالب جميع الأطراف والجهات المهمشة ويرد الاعتبار لضحايا عسف الدولة من الجماعات والأفراد الذين عارضوا سطوتها وانتهاكها للحريات والحقوق العامة والفردية، ليُفضي بعد ذلك إلى تسويات ومصالحات تاريخية تضع الوطن على سكة الخلاص بإرادة جماعية عبر مرحلة انتقالية يتم فيها إرساء مداميك راسخة لبناء وطني ديموقراطي جديد يدرأ الإنقسام والتشرذم ويوقف نزيف الدماء ويزيح الاستبداد والفساد ويعيد هيكلة البنيان الاقتصادي لمصلحة كرامة الفقراء ويحقق العدالة والمواطنة المتساوية، ويتجاوز عثرات القديم وخيباته ومراراته وكلَّ ما كان مَشكُّواً منه. من الخير لأهل الإنقاذ أن يعتبروا من دروس التاريخ، فهناك من أغشى عينيه بريق السلطة وظلَّ عشرات السنين ذاهلاً عن رؤية الواقع حتى دهمته تلك "اللحظة التاريخية" واضطر للإعتذار بأنه لم يكن يفهم ما يجري، ولكن بعد أن فات الأوان وسبق السيف العزل.