(1) ٭ كنت استمتع بروايتها وطريقتها في السرد، رزينة وهادئة ومتمهلة، وفيها قدر من الحنين والشجن وتختم بعبارتها الاسيرة (ودعته أمين الوداعة)، فقد خرج ابنها قبل أكثر من عشرين عاماً يضرب في الأرض ولم يعد وانقطعت عنه الأخبار، لا تلميحاً أو تصريحاً، ولكنها لم تفقد الأمل أبداً، وان خط الزمن على وجهها مسحة من الأسى، إلا أنها لا تشعرك بأنها فقدت الأمل، كانت مؤمنة بأنها استودعت ابنها الله، وأنه سيعود يوماً ما، (إن شاء الله ألقاه قبال صاحب الوديعة ما يأخذ وديعته)، تشعرك بالطمأنينة وان ظل فؤادها مشحوناً بالألم، يقول ابن خفاجة: تقول الأم: يا طفلي سلاماً ٭ ورب الكون يهديك سبيلاً إذا بعدت ديار الأهل عني ٭ غداً قلبي بساحتهم نزيلاً (2) ٭ جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومعه ابنه وكان يشبهه وتعجب عمر رضى الله عنه وقال (والله ما رأيت مثل هذا اليوم عجباً، ما أشبه أحداً أحداً أنت وابنك إلا شبه الغراب الغراب، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف ولو عرفت بأن أمه ولدته ميتة، وغير عمر في جلسته فقال للرجل: أخبرني؟ قال كنت عزمت سفراً وألحت زوجتي ومنعتني وكانت حاملاً وقالت (كيف تتركني وأنا حامل؟) فوضعت يدي على بطنها وقلت (اللهم انني استودعك غلامي هذا)، وسافرت ما شاء الله ولما عدت كانت قد ماتت، وعلمت ان دخاناً يخرج من قبرها، فقلت (والله انني لمن أعلم خلق الله بها، كانت صوامة قوامة عفيفة لا تقر منكراً وتأمر بالمعروف ولا يخزيها الله أبداً وقمت إلى المقبرة وأخذت أحفر حتى وصلت إليها، فإذا بها ميتة وابنها هذا الذي معي حي عند قدميها وإذا بمنادٍ ينادي يا من استودعت الله وديعة خذ وديعتك). (3) ٭ في هذه البادية القلوب نقية وشفيفة والايمان يتدفق ببساطة بالغة وقناعات راسخة ويقين عميق، وتسليم بأمر الله في شأنهم كله، وأنفسهم أبية عن غشاوة الدنيا، وكما قال عكير: أتغشينا بي حبك لبسنا عباية يا موية الرهاب الما ملت كباية عجيب يا الدنيا أمرك إلا نحن غباية عاشقين الجمال في لمعة الحرباية وينتظرون الفرج مهما تكاثفت عليهم قساوة الأيام وكما قال الحردلو: كبس الهم على ليلي ونهاري مسرح بطني اشيمطت قلبي البفر مجرح الصايدني كان صاد الحجار بتمرح لكن رحمة المولى الوسيعة تفرح ٭ وللحاردلو ايمان عميق بتقلبات الحياة ودورة الأيام وهو قد عايش تقلباتها واصطبر على ذلك: بعد أم بوح تقطط جامة العداد بعت أب نامة بي قيمة ثلاثة أمداد إن جادت بي خيط العنكبوت تنقاد وإن عاقت تقطع سلسل الحداد ٭ لقد نفدت مياه البئر وباع الشاعر بعيره بسعر زهيد، وقال الشاعر آدم ود بشير: كان تسمعني يا ابن آدم بدور أهديك يا مسكين بشوف عجب النفس في مشيك أخير تنظر هناك دي ما داراً ليك بعرفك ود فلان هي الجثة بتسميك ٭ وأبلغ من ذلك قول الشاعر صلاح أحمد ابراهيم: آخر العمر طويل أم قصير كفن من طرف السوق وشبر في المقابر ٭ بتلك البساطة تنظر هذه البوادي للدنيا وبقناعة وإيمان راسخ تتعامل معها، ويقينها في الله كبير. (4) ٭ كان أصيلاً مختلفاً ذلك اليوم، وتلك المرأة تنهض واقفة وقد أحست حركته، ثم غلبها جسدها وهي تسمع صوته فتهاوت إلى الأرض وحاولت جر نفسها من بين (الركام) وحين تبينت ملامحه وتيقنت سجدت.. لم تبك، أبداً، كأنما مآقي الحزن قد جفت وأوردتها توقفت عن دفق الدم والمشاعر ولكنها هتفت «أحمدك يا الله».. وارتمى في أحضانها، ولاحظت شفاهها تتراقص ويدها ترتجف وجسدها يهتز وهو غارق في نحيب ووجيب، وهي تمسح رأسه وتشم عرق جسده، احداهن علا صوتها بالزغاريد ثم أخرى وأخرى، حتى ضج الحي.. وسارعنا دون تفكير.. الطاهر جاء.. ود الحاجة جاء.. الغائب جاء.. ٭ عادت الحياة بسرعة لذلك (الحوش)، كانت اللغة شحيحة فالمشهد أبلغ من العبارة، أصدقاء قدامى وانداد جاءوا يستعيدون ذكريات قديمة، وهو يستكشف الأمكنة ووجوه الناس وينصت للوقائع والأحداث، وبين كل حين تطل أمه تستشرف بنظرها خلسة كأنها في حالة حلم.. ويحكي عن حنينه بتوجع كأنه الشاعر محمود صبحي يغالب لوعة: وأنت يا عائدة مع مطلع الربيع بلون حزن تآكل من أثر النجيع من بعد طول غربة، في طلب الدفء وخلف المرتع الأمين.. تعاودين عشك القديم.. لشوقك الدفين.. أو كما قال المبدع اسحق الحلنقي: وكتمت أشواق الحنين ٭ داير الدموع يتقلوا ورجعت خليت الدموع ٭ يرتاحوا مني ويرحلوا ٭ اللهم إنا نستودعك ديننا وأهلنا وأبناءنا وأحفظنا بحفظك الجميل (يا أمين الوديعة).