حفل الاسبوع المنصرم بزيارتين تشكلان معا احد اهم اضلاع الاستقرار الداخلي المتبادل، وتؤكدان ايضا معا ان الارادة الوطنية المستقلة، تمثل وفي كل الاحوال المدخل الحقيقي لتسوية اي نزاعات او سوء تفاهم تفرضه المتغيرات المحلية او الاقليمية او الدولية، ويبدو بل لعله من المؤكد ان تحضيرات جادة قد سبقت كل من زيارتي الرئيس ديبي، للخرطوم والاستاذ علي عثمان نائب رئيس الجمهورية للقاهرة!! ولكل من البلدين مصر وتشاد عمق استراتيجي متبادل بمعنى الكلمة في السودان وهو عمق يقوم على الواقع والتاريخ، فالامتدادات العرقية والثقافية تتجاوز الحدود الجغرافية المرسومة الى التأثير المباشر في مقومات الشعوب الثلاثة ولم يكن غريبا بهذا الوضع والفهم الصحيح، ان تنعكس وتتداعى حالات التوتر، بسبب الصراع السياسي او الاوضاع الاقتصادية على كل من البلدان الثلاثة، ويمكن وبلا تردد ان نضيف لها كلا من اريتريا واثيوبيا فللمكان على مدى التاريخ دوره المباشر والخطير علي ذلك الجوار، فقد ظلت القبيلة كما ظلت السلطة عنوانا للتوتر الحدودي والداخلي بحسبان مدى انتمائها او معاداتها للانظمة السياسية القائمة وبحسبان مدى ان يكون العداء القبلي للنظام الداخلي ورقة في يد النظام المجاور وهي ورقة خطيرة امتد تأثيرها المدمر في حالة تشاد الى «كتم» عند بدايات تحرك ديبي هبري وإلى «الصياح» وقبائل الميدوب ولعلي اقول الى قلب الفاشر، وفي مطارها في اوقات سابقة ولم اكن استبعد نفوذ ذلك في قلب انجمينا، لولا بعض تحسب وصبر من تحرك فرنسي ظل يتحين الفرص وتحركات اخرى مرئية وغير مرئية ربما يكشف عنها التقارب السوداني التشادي قريبا. «2» من الاسباب المباشرة التي تؤجج الصراع في كثير من الدول على الاخص في دول العالم الثالث الصراعات التي تنشأ بسبب الحدود ، وترى دراسة جادة في هذا الشأن ان تقسيم الحدود في افريقيا كان احد ابرز مخلفات الاستعمار فيها، وقد ارتبط ذلك التقسيم بما ارادته اوربا من اقطاع ثقافي واقتصادي «فرانكفون انجلوفون» على الاخص. وقد ترتب على ذلك تقسيم القبائل ذات الاصل التاريخي والثقافي الواحد الى وحدتين سياسيتين او اكثر مما اسهم في هشاشة الاتحاد الوطني وتغليب الانحيازات العشائرية والولاءات القبلية وهو ما يرتبط بدوره بطبيعة الانظمة السياسية واستراتيجياتها المحلية والاقليمية، والواقع ان القبيلة ظلت تمثل في المنطقة وعبر التاريخ وحدة سياسية لم تمتد لها يد الفهم الصحيح.. بايجاد المعادلة الموضوعية التي تحقق الاستقرار للدول المعنية ذلك ببساطة بتحويل النمط القبلي التقليدي «الرعي او الزراعة» الى نمط حديث هو النمط الحضري يربط القبيلة بمشروعات التنمية وتداعيات ربطها بالانتاج وثقافته وعلاقاته، وهي الصورة التي بدأت بوادرها فيما نرى في منطقة حلايب، ولا يعني ذلك الطرح اسقاط اهم عوامل التهاب الجوار وهو استراتيجيات النظام الدولي والطموحات الاقليمية «!!» على الاخص فيما يتعلق بالموارد الاستراتيجية «النفط اليورانيوم» او بالمكان «بحسبانه» ضمانا للامن الاقليمي او الدولي، فلهذا نفوذ - هو صاحب الاستعمار الجديد- كما طرحه المحافظون الجدد في الولاياتالمتحدةالامريكية باسم الفوضى الخلاقة او باسم الشرق الاوسط الكبير.. وكان نموذجه في افريقيا «الصومال» وفي العالم العربي الاسلامي «العراق» وكان مشروعه الماثل هو السودان!! «3» للتاريخ في قراءته العميقة كما يثبت المفكر الامريكي هنري كيسنجر «كسينجر وادارة الصراع الدولي» القول الفصل، في تقديم حلول النزاعات المزمنة، وهو امر لا يأتي اعتباطا، والنموذج الذي يقدمه الرجل «مع اعتبار الفارق» هو ما قدمه «مؤتمر فيينا» من التوازن المطلوب بين الاطراف، فقد رأى ان نجاحه تمثل في قبول كل الاطراف ولكل- بعضا من مصلحتها في تحقيق الاستقرار، ويمضي اكثر دقة في قيام ذلك التوازن على: ٭ استخدام الصبر والدهاء. ٭ الاستخدام الامثل لقوى التأثير الخارجية «الاقليمية او الدولية». ٭ تجنب حرق الجسور او اغلاق النوافذ المفتوحة. واذا كنا نسقط في اسباب «كيسنجر» من عوامل فقط التوازن - ما يتجاوز الاخلاقيات والمثاليات، وازدواجيات التعامل، فلأنها وببساطة لا تليق بالموروث الثقافي والديني، وهي التي ادت في اغلب الاحوال للمزيد من التعقيد.. وبعد فان علاقات الجوار بطبيعتها التي تتفاوت استقرارا وضجرا ومواجهة انما تدخل في صلب المبادئ والاسس التي تشكل السياسة الخارجية لاي دولة ودون دخول في تفاصيل اكاديمية نحيل بشأنها الى امهات المراجع في العلاقات الخارجية والعلوم السياسية، فإنني اكتفي هنا بالاشارة الى: ٭ تأثير البناء الداخلي على مسارات السياسة الخارجية على الاخص في مواجهة دول الجوار «مصر تشاد اريتريا اثيوبيا ليبيا يوغندا» فقواعد السياسة الخارجية التقليدية البعيدة عن لعبة المفاجآت والمغامرات تبدو هي الامثل فأي «مغامرة» يتبعها الطرف المعني- وبالضرورة بفعل مضاد للاتجاه- ويزيد من حجم القوة التي بدأ بها بل ان ذلك يمثل في واقع الامر بداية لحريق جديد في المنطقة بسبب التدخل الاقليمي او الدولي - وحينها يصبح التفاهم المباشر متعذرا اذ يطل «سادة» جدد يملكون حق القول والتوجيه.. وتتراجع السيادة الوطنية للداخل. ٭ البيروقراطية الدبلوماسية بين حدي الانطلاق والابداع من موقع النصح المهني والعلمي المؤسسي او موقع التنفيذ الآلي، بما يفقد المهارات ويعفي قدرة التفكير ويسوق الى الاندغام والسلبية وأي تداعيات اخرى ممكنة.. فالبيروقراطية الدبلوماسية العاجزة تحل المشاكل التي تعترضها دون محاولة الخلق والتجديد.. بل انها فيما يؤكد كيسنجر تكتفي بمجرد جمع المعلومات، دون ان تجرؤ على التحليل والاستخلاص بتقديم الخيارات لصانع القرار السياسي، وهي صورة يقربها عقلنا الجمعي بالمثل الشعبي الذي يقول «سماحة جمل الطين». ٭ ان غياب الافكار العلمية بسبب تراخي ارادة إعمال الرأي خوفا او ترددا او بسبب انعدامه اساسا، منذ لحظة الاختيار الاولى يسوق القيادة السياسية الى المستشارين ورؤساء الملفات واللجان ، ويبدأ هذا القدر الكبير في دراسة كم هائل من المشاكل المتداخلة والحلول المتناقضة والتقديرات المتباينة. ويكون لاصحاب النفوذ رؤساء تلك اللجان قدر لا يستهان به من التأثير الشخصي وهو تأثير لا ينبغي التخفيف من دوره كما لا ينبغي في ذات الوقت الغلو فيه.. ونضيف في هذا السياق «سياق زيارتي ديبي للخرطوم وعلي عثمان للقاهرة» تساؤلات عن دور الاجهزة ذات العلاقة المباشرة بالتحضير والاعداد للحظة النجاح المحسوب بالدقة اللازمة .. مراكز البحوث، الامن الخارجي، معاهد الدراسات، جمعيات الاخوة وما اليها ،أهو كذلك بالفعل وكما ينبغي، ام هو خطوة سياسية مجردة وجزئية؟ «4» لزيارة ديبي رئيس جمهورية تشاد تقدير بلا حدود في وجدان مواطني السودان.. من اهله ولزيارة علي عثمان للقاهرة نائب رئيس الجمهورية وقع خاص لا حدود له بين اهله من المصريين. ويتسع مدى التقدير والاعزاز للاجهزة غير المعلن عنها رسميا في ذلك الانجاز.. فهو وبكل المعايير ضربة لازب او هي ضربة معلم.. ونسأل في غير براءة اين كان ذلك «المعلم» قبل هذا الوقت الحرج، ويبدو من المهم، ان نؤكد على تلك الخطوات مدخلا بارادة الاطراف وتحررها من كل ضغط خارجي او اقليمي، في ان يستعيد الوطن توازنه الداخلي والاقليمي والدولي.. وهو مما استحق الاشادة ولقد يبدو لي مهماً اثبات بعض الملاحظات: ٭ هل بالامكان النظر في تقييم وتقويم اجهزة العلاقات الخارجية «الرسمية وغير الرسمية» من خلال معايير مدى التقدم في استقرار علاقات الجوار التاريخي، بتعقيداتها الاقليمية والدولية بالتركيز على القراءة الصحيحة للمتغيرات. ٭ هل بالامكان النظر في انشاء مركز علمي بالمعنى الدقيق للكلمة حتى لا يتحول الى مركز علاقات عامة وخاصة وترهل وامتياز، يتمسك بالنظر العلمي المنهجي.. بعيدا عن الانطباع والانتماء ودرجات التمويل، وللجامعات في ذلك شأن لا يستهان به. ٭ ان السودان في مرحلته القادمة رهين تماما بالشرعية الدستورية ،وهي تقتضي وبالضرورة النظر الدقيق في اعادة كثير من مفاهيم ورؤى الحرية والمساواة والعدل، في سياق قناعات تناغم الاشواق العقلية لاهل الوطن، وفي سياق توازن لا يخل او يعترض قناعات اهل الجوار.. وهي مدرسة برع السودان فيها على زمن مضى. ٭ ان المنديل الابيض الذي رفعه الرئيس ديبي والذي بادله فيه الرئيس عمر البشير ذات النخب يعني وفي بساطة ان دارفور لم تعد أزمة. الا في نطاق حدود الوطن. وهي بتلك الصفة اقرب للحل الناجع والسريع. ٭ ان مصر وهي دولة لا يمكن تجاوزها، في كل الاحوال، ليست بعيدة عن واقع وماض ومستقبل السودان، والعكس تماما صحيح، وان دعوة نائب رئيس الجمهورية لتفعيل الدور المصري في السودان لم تكن بعيدة عن الواقع، حيث لا يصح في النهاية الا الصحيح، فمصر قادرة واستطاعت بالفعل ان تقف الى جانب السودان دون مزايدات. ولقد تبدو عناوين لقاءات الاستاذ علي عثمان باعمدة الفكر المصري والاعلامي مدخلا لايجابيات كثيرة. ٭ هذه العناوين الجميلة وهي تصب في خانة الاستقرار المتبادل لدول الجوار، هل بالامكان ان تمتد «لمشروع اقليمي كبير» يتسع لاثيوبيا واريتريا في مجالات: الاقتصاد. الثقافة. مراكز البعث التاريخي والحضاري. البنى التحتية والطرق القارية. وبعد.. تتداخل الملاحظات والتساؤلات ويبدو المستقبل جميلا ومشرقا... فهل تقرأون!! ولعلي اواصل ان شاء الله في الاسبوع القادم.