سفارة السودان بالقاهرة: تأخر جوازات المحظورين "إجرائي" والحقوق محفوظة    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    صقور الجديان" تختتم تحضيراتها استعدادًا لمواجهة غينيا الاستوائية الحاسمة    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خارج الدوام محمد عثمان ابراهيم
نشر في السوداني يوم 13 - 06 - 2019

شكراً للأستاذ ضياء الدين بلال، رئيس تحرير هذه الصحيفة، الذي عاد من إجازته فرفع القيد عن كلمتنا في عهد (الحرية والتغيير والنهضة) والذي لم نفقد أبداً الأمل الكبير في أن يتحقق رغم صعوبات المسار، ولا بأس في هذا المقام أن نعيد على الشعب الشعار المفعم بالبهاء والأمل أن نضاله مرير ونصره مؤكد!
يتأسس هذا المقال على عمادين رئيسيين هما: (1) أن قوى الحرية والتغيير لم تهبط من السماء وأن قوامها بشر عاديون يخطئون ويصيبون في الشأن العام الذي هو شأننا وواجبنا أن نقوم مسارهم بالنصح، والنقد، والرفض إن دعا الأمر، و(2) إن الأهم دائماً في شأن الحكم والسلطة هو كيف تدار البلاد وليس من يدير البلاد، وبهذا المعنى فإن أي حكومة انتقالية مقبلة منوط بها صناعة الأسس الضابطة لحكام المستقبل بحيث لا مناص أمامهم من المسير وفق الخطوط المرسومة.
إبان انطلاق التظاهرات والاحتجاجات الشعبية والتي قادت في النهاية إلى انتصار إرادة الجماهير وإسقاط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، أتيحت لي فرصة مميزة في الجلوس ضمن نخبة مجتباة من المثقفين وصناع الرأي السودانيين في ملتقى تحديات الانتقال الديمقراطي السلمي والذي عقد برعاية معهد الدوحة بدولة قطر في يومي 16 و17 فبراير من هذا العام.
تم تكليفي من قبل اللجنة المنظمة بالحديث ضمن محور (المعالجات الجذرية للعنف) وقد سررت بهذا التكليف وقلت كلمتي بكل ما وسعني الأمر من الاستقامة والصراحة والحرص على كلمة الحق. لست في مقام إعادة الكلمة وقد أعيد نشرها على هذا الصحيفة على امتداد صفحة كاملة (28 فبراير 2019م) ولكن لا بأس من التذكير بأنني قد انطلقت في تلك الكلمة من قواعد أهمها أن الجماهير لا يمكنها إسقاط الأنظمة، وأن أكتوبر وإبريل هي حكايات للسمر السياسي قد لا تصلح للاعتماد عليها في الشأن الوطني الجدي ف(النخب السياسية) هي التي قادت التغيير في بنى السلطة في المرحلتين وهي التي قادت بطبيعة الأمر صناعة البدائل.
وقلت إن استخدام العنف في ممارسة السياسة السودانية متجذر وعميق ومحتمل في أي لحظة متى ما توفرت له الظروف والحاضنة اللازمة، وإن كل شخص قادر على ممارسة أقصى درجات العنف في لحظة معينة دون أن يشعر بالخطأ أو تأنيب الضمير، وحذرت بكلمات لا لبس فيها من أن الانزلاق نحو العنف في الصراع السياسي هو احتمال لا ينبغي تجاهله.
وفي الفترة التي سبقت سقوط نظام البشير دفعت بمقالة من جزأين بعنوان (ألهاكم التظاهر) تناولت التظاهرات ونشر الجزء الأول منها في هذه الصحيفة (2 إبريل 2019م) ثم نشر الثاني في صحيفة الصيحة (24 إبريل 2019م). افترضت المقالة المطولة ذات الجزأين أن الشعار الذي هتفت به التظاهرات (تسقط بس) شعار عدمي ومحدود ولا يفتح باباً واسعاً للتغيير وإنما يغلق باب استمرارية التغيير فور حدوثه، وهكذا ما إن حدث التغيير حتى انطلقت الجماهير المتظاهرة تبحث عن شعارات جديدة لبقاء التجمعات في ميدان القيادة العامة أي تبحث عن مشروعية وطنية لتكدس الشباب خارج منازلهم والبقاء في الشوارع. هذا أمر دائري لا ينتهي فحاجات الشعوب لا تنتهي وربطها بالاعتصام في الشوارع والميادين العامة يعني بقاء الشعوب في الشوارع إلى الأبد. ثم خلصت المقالة إلى ثلاث خلاصات نعيدها هنا:
الخلاصة الأولى: هي أن هذه التظاهرات التي امتدت لحوالي ال5 أشهر من ديسمبر إلى إبريل كانت مظاهرات توفرت لها الحاضنة اللازمة من مؤسسات نظامية كانت تحتاج إلى السند الشعبي اللازم لإجراء التغيير والتخلص من الرئيس السابق ونظامه. أي حديث يخالف هذه القراءة المتفحصة هو حديث سياسي رومانسي يتملق المتظاهرين ويخادعهم.
الخلاصة الثانية: لم يقد تلك الاحتجاجات والتي هيأت المناخ السياسي المحلي والإقليمي للتغيير العسكري ما يسمى بتجمع المهنيين فقد كان واضحاً أن تلك الاحتجاجات قادتها غرف عمليات كانت تمتلك القدرة والكفاءة والخبرة مما لم يتوفر لما يسمى بتجمع المهنيين هذا وكون قادة هذا التجمع المحدود القدرات والأثر يتبنون الآن هذه الاحتجاجات ويصدقون أكذوبة أنهم قد قادوا التغيير فهذا يكشف عن خلل شديد في استقامة هذه المجموعة وفي مصداقيتها!
الخلاصة الثالثة: أن هذه التظاهرات قد حققت الهدف الأول المطلوب منها التغطية عليه وهو إسقاط النظام وبقاؤها في ميدان الاعتصام لن يحقق أي أهداف أخرى.
ودعوت في خاتمة المقال المجلس العسكري إلى إنشاء مؤسساته المعينة على الحكم وتعيين مستشاريه ومعاونيه وطرح برنامجه للفترة الانتقالية وتأسيس الأجسام الضرورية لفعالية جهاز الدولة، أما الاعتصام والتظاهر فقد حان الوقت لإنهائه بشرف ليبقى في ذاكرة الأمة كيومٍ مجيد!
للأسف لم يقرأ أحد من الطرفين المعنيين بالصراع بقلب سليم وهكذا انتهى الأمر إلى سقوط مؤسف في أنشوطة عنف أزهقت فيه العشرات من الأرواح البريئة دون أدنى حاجة. لم يجرب تحالف الحرية والتغيير الوسائل السياسية الأخرى الممكنة للتعبير عن الرفض أو المطالب ولم يجرب المجلس العسكري سوى الوسيلة الوحيدة التي ظلت دولة الجنرال البشير تستخدمها في كل مرة وهي قتل المتظاهرين. إن تجاوز هذه المأساة غير ممكن للأبد، لكن اإجراء تحقيق قضائي نزيه وشفاف ومحاسبة جميع الجناة وفقاً للقانون وجبر الأضرار ضروري جداً وحتمي لتحقيق الحد الأدنى الممكن من التعافي والتعايش السلمي الذي يرعى الوطن وحقوق المواطن وينظر إلى المستقبل.
من الضروري في هذه اللحظة من السكون أن نعيد قراءة المشهد السياسي بحياد واستقامة واستقلالية فإن سكت الجميع عن الحق ضاع الحق نفسه!
تقود التيار المناهض للمجلس العسكري الانتقالي، الذي يتولى السلطة الفعلية الآن في البلاد، مجموعة قوى الحرية والتغيير ولأجل فهم جيد لهذه القوى ينبغي أن نقوم بتفكيكها إلى عناصرها الأساسية (وهو واجب ثقيل وأمر ممل) ولكن لا مناص منه لأجل البناء على أساس متين وراشد. يتشكل الموقعون على إعلان الحرية والتغيير من عدة تحالفات أهمها: قوى نداء السودان وتتشكل من 8 أحزاب سياسية و3 حركات عسكرية ترفع السلاح، قوى الإجماع الوطني وتتكون من 11 حزباً وتجمعاً سياسياً، وتجمع المهنيين ويضم 16 تنظيماً فئوياً، ومبادرة المجتمع المدني وتشمل 27 تشكيلاً، وينضاف إلى التحالفات الثلاثة هذه عدد 22 تنظيماً حسبما توفر لدي في آخر إحصائية ليصبح عدد جميع القوى الموقعة على الإعلان هو حاصل جمع 8+3+11+16+27+22 أي 87 (سبعة وثمانين تنظيماً).
يمكن إعادة تصنيف هذه القوى ضمن ثلاث مجموعات هي:
1 الأحزاب السياسية ذات الحضور المتباين في الشارع وهي الأمة، الشيوعي، المؤتمر السوداني، الحركة الشعبية عقار، وحركة مناوي، وحركة جبريل إبراهيم.
2 الأحزاب الاتحادية المنشقة عن الحزب الاتحادي الأصل بزعامة الميرغني وعن الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة الدكتور أحمد بلال وهي (أحزاب الاتحاديين المستقلين، الوطني الاتحادي الموحد، الحركة الاتحادية، الاتحاديين الأحرار، الاتحادي الديمقراطي العهد الثاني، التيار الحر، الاتحادي الديمقراطي الثوري، بالإضافة إلى اتحاديين معارضين غير منضوين تحت أي من الأحزاب المذكورة).
3 أحزاب البعث وهي حسب أسماء قادتها البعث يحيى الحسين ، البعث السنهوري، البعث التجاني، البعث بولاد.
4 تشكيلات معروفة لكنها فضفاضة وغير مؤثرة مثل الحزب الجمهوري، والليبرالي، والجبهة الوطنية العريضة، ومبادرة لا لقهر النساء، وسكرتارية مبادرة الشيخ أزرق طيبة وما شابهها.
5 تشكيلات فئوية وسياسية غامضة مثل جمعية اختصاصيي الإنتاج الحيواني، وتجمع التشكيليين، وتجمع النساء السياسيات، وحزب حشد الوحدوي بزعامة الكابتن، واللواء الأبيض، ومنظمة النيل للمياه ونزاعات الأراضي، وتيار الوسط للتغيير، ومنبر المغردين السودانيين، والكيان النوبي الجامع على سبيل المثال فقط إذ تتجاوز القائمة السبعين وحدة تقريباً.
أغلب هذه القوى باستثناء القوى المذكورة في الفئة (1) لا وجود لها وهي عبارة عن تنظيمات يقودها فرد واحد أو أفراد محدودون أو هي واجهات لأحزاب أخرى وهذا تكتيك معروف في السياسة السودانية يمكننا تسميته بتكتيك (تكبير الكوم).
أثبتت جميع هذه القوى أنها قوى مؤقتة ليست لديها قواعد شعبية وهي تعتمد بكاملها على جمهور مختطف ومؤقت هي أول من يعلم بأنه جمهور ليس لها ولا يعرفها، وهو جمهور الشباب المعتصمين والمتظاهرين والذين كانوا يمثلون أنفسهم بشكل رئيسي ويعبرون عن تطلعاتهم الخاصة دون التزام حزبي من جانبهم. باستثناء القوى المذكورة في الفئة (1) فإن جميع هذه القوى الفردية لم تعقد أي اجتماع لقواعدها ولم تستأنس برأي منسوبيها ولم تصدر أي بيانات بأسمائها حول القضايا الراهنة وبقي زعماؤها ضمن التحالف الفضفاض (ستار العيوب) يوقعون معه ويستترون خلفه من عار الانبتات السياسي، وعدم العثور على عضوية، أو دار، أو منبر بل إن غالبيتها لا تملك حتى صفحة في (الفيسبوك) حيث بوسع كل من هب ودب وزحف وقفز الحصول على صفحة ومعجبين!
تسهم معرفة التنظيمات الموقعة على إعلان الحرية والتغيير في تمكيننا من قراءة أوضح وفهم أفضل لمحتوى الإعلان نفسه والذي أستطيع القول بضمير مستريح بعد عدة قراءات إنه إعلان دون الطموح ودون التطلعات وأقل من سقف الاسم الباهي الذي أعطي له.
يمكننا تقديم قراءة تمثيلية (tiveRepresenta) لبعض محتويات الإعلان بغرض تقديم صورة مصغرة له فقد اهتم البندان الأولان فيه بقضية السلطة بشكل مطلق فدعا الأول إلى تنحي الرئيس (السابق) البشير فيما دعا الثاني إلى تشكيل حكومة قومية من كفاءات وطنية ب(توافق جميع أطياف الشعب السوداني) تحكم لأربع سنوات وهي عطية شديدة السخاء من قوى الحرية والتغيير لأنفسهم. لقد تم لاحقاً التوافق على استبعاد القوى السياسية التي كانت تشارك النظام السلطة لحظة سقوطه وهو تدبير انتقائي قصد به حماية القوى السياسية التي شاركت النظام السلطة والعمل في مؤسساته وفق اتفاقيات شراكة تمت من وراء إرادة الناخبين (مثل الحزب الشيوعي، والبعث، والأمة، والتحالف) واستبعاد قوى ذات نفوذ انتخابي وجماهيري لا يمكن تجاهله وهو الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، والمؤتمر الشعبي، والمؤتمر الوطني الذي كان حاكماً. في هذه الدوامة يجدر بنا طرح السؤال: كيف تم تسكين جبهة الشرق التي وقعت على الإعلان في هذا التحالف وهي التي ظل ممثلوها ضمن حكومة الرئيس البشير حتى لحظة الانقلاب العسكري الحاسم؟
ربما يناسب الأمر أيضاً أن نذكر بأن طول الفترة الانتقالية المحدد بأربع سنوات يماثل دورات الحكم المنصوص عليها في أغلب دول العالم ويتجاوز عدد السنوات التي يسمح بها الاستحقاق الانتخابي في عدد من الديمقراطيات الراسخة مثل أستراليا ونيوزيلندا.
افتقر الإعلان لأي منهج لتحديد مهام فترات الحكم الانتقالية وخلط خلطاً مريعاً (أسهم فيه الغرض وضعف الخبرات) بين تلك المهام ومهام الحكومات ذات التفويض الانتخابي. لو اهتم قادة الحرية والتغيير قليلاً بقضية الحكومة الانتقالية بما يتجاوز تسكين أنفسهم وأصدقائهم في الوظائف السامية وتوفروا لبضعة أيام للقراءة والتأمل في إرث العالم من الحكومات الانتقالية لأدركوا بكل بساطة أن الحكومات الانتقالية هي نسق قانوني مؤقت لأداء مهام محددة لا تشمل بأي حال من الأحوال القائمة الضخمة للمهام التي قرروا وضعها على ظهر حكومتهم المشتهاة. باستثناء البند الرابع المتعلق بالانتقال من نظام الحزب الواحد والبند التاسع المتعلق بعقد المؤتمر الدستوري فإن أغلب المهام المذكورة تدخل في صميم واجبات الحكومات المنتخبة.
وردت فقرة غامضة عن وقف كافة الانتهاكات ضد الحق في الحياة فوراً، وهذه العبارة مقصود بها في أدبيات حقوق الإنسان إلغاء العمل بأحكام الإعدام وأغلب الظن أن ورودها بهذه الصيغة كان مقصوداً به مغازلة المنظمات الحقوقية الغربية لأن هذه النقطة على وجه التحديد لم تثر في مطالب المتظاهرين ولا في برامج القوى السياسية، والسؤال هو هل كتبت هذه الفقرة، بل كل فقرات الإعلان، استجابة لحاجة ومطالب الجماهير أم ما تيسر فقط في أذهان الذين كتبوها؟
اختتم الإعلان فقراته بالتأكيد على أنه يبقى مفتوحاً للإضافة دون تحديد أي صيغة للتوافق على الإضافة، وهل ستتطلب الإضافات إعادة توقيع الجهات الموقعة وما إلى ذلك من الإجراءات النظامية التي لم يسعفها قلة زاد الكاتبين من التجربة السياسية، وقل محصولهم من المعارف الوافرة في هذا الجانب.
يجدر التكرار هنا في ظل سطوة محاكم التفتيش السياسية الحالية أن نقول إن عملية فض الاعتصام وما صاحبها من قتل للأنفس البريئة تعتبر جريمة متكاملة الأركان ولا بد من تحقيق ومحاكمة المتورطين فيها ولا بد من كبح جماح وضبط القوات التي تتحرك الآن في الشوارع بحيث تتعامل وفق ضرورات حفظ الأمن في الأماكن السكنية دون تحويل هذه المناطق إلى ساحات للحرب والعمليات. اتفقنا؟
صاحبت عملية الاعتصام في ميدان القيادة العامة أخطاء فادحة يتحمل مسؤوليتها قادة تحالف الحرية والتغيير الذين باعوا الجماهير بضاعة فاسدة بأن البقاء في الميدان هو المفتاح الوحيد للضغط على المجلس العسكري لتسليم السلطة لهم (ولهم وحدهم فقط) دون أن يشرحوا للجماهير أن قدرتهم على لي ذراع الجيش والقوات النظامية الأخرى محدودة للغاية.
استخدمت ساحة الاعتصام المواجهة لمبنى القيادة العامة للجيش كمنصة لاستفزاز الجيش والإساءة إليه من خلال المايكرفونات واستضافة قادة الحركات المسلحة الذي يواجهون الآن نفس هذا الجيش في مناطق العمليات ويرهقون البلاد شططاً ويستنزفون مواردها. ما كان من اللائق السماح باحتفالات عملية الذراع الطويل وهي التي قدمت فيها القوات النظامية شهداء وجرحى دفاعاً عن أمان واستقرار من اعتصموا في الميدان! ما كان من اللائق رفع شعارات القوى المسلحة المتمردة والتغني ببطولاتها وأمجادها! ما كان من اللائق السماح للعديد من رموز العمل المسلح المتمرد على الدستور والقانون أن يشاركوا في فعاليات الاعتصام وأن يتجولوا فيه كمنطقة محررة أمام سمع وبصر حراس الدستور والقانون وحماة الأرض والعرض و(الحارس مالنا ودمنا) كما تسميهم أدبيات السلطة والتيار الرئيسي في المجتمع. كان على قوى الحرية أن تحدد موقعها من العمل المسلح ضد الدولة كأولوية ملحة.
ساهم قادة الحرية والتغيير في استخدام فئات ضعيفة وحرقها كوقود بشري رخيص الثمن فقد سمح بمشاركة أطفال كثر في الاعتصام بل في أنشطة الاعتصام من حراسة للمتاريس وتفتيش وهتاف وغير ذلك وهو عمل يفتقر للحكمة والاستقامة والأخلاق. كما سمح بتجييش الفقراء والمعوزين والمشردين والكثير من فئات المجتمع الأقل حظاً واستخدامهم كأرقام فقط لزيادة عدد المعتصمين، وسمح بجذب تلك الفئات بتوفير الغذاء والمأوى والحصص الدراسية والإدماج المؤقت في المجتمع مقابل المشاركة في الاعتصام. لقد قضى العديد من الأطفال والضعاف نحبهم أو أصيبوا بجراح في الجسد أو في الأرواح كما تنقل الأخبار من ساحات الاعتصام ودون أي محاولة لتبرئة من أطلق الرصاص عليهم فإن العدل يستوجب محاسبة من سمحوا بوضعهم أمام الرصاص بينما احتموا هم أنفسهم بالسواتر الخرسانية.
ثم ماذا بعد؟
لن تنجح الوساطات (دولية أو محلية) في التقريب بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير وهذا أمر متعلق بديناميات النزاعات والتفاوض سنعود إليه في كتابة لاحقة لذا فإن التعويل على وساطة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد أو وساطة دول الترويكا وغيرها هو محض غرس لا يجدي ولا يرجى له ثمر. على جميع الأطراف العودة الآن بشكل عاجل للتفاوض والتوافق على قضايا رئيسية وهي الإعلان الدستوري الذي ينبغي أن يكون الحكم بين مؤسسات السلطة الانتقالية ، وتشكيل الحكومة، وتأسيس جهاز تشريعي محدود العدد بحيث يشمل تمثيلاً متوازناً لجميع القوى السياسية والمكونات الاجتماعية السلمية والتي توافق على الإعلان الدستوري وليس حصرياً فقط بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.