* للوهلة الأولى قد تبدو المَسألة لا تَخلو من مَعضلةٍ (غَلّْوْتِيَه) – وفق ما يجري عليه لساننا السُّوداني الدارج – فَمِنَ المَعلوم للناس عُمُوماً؛ وللقانونيين منهم خُصُوصَاً، ووفق ما يُصوِّره لسان حال مَحكمتنا الدستورية السودانية المُوقرة – "المُتَّخَيَلْ" هنا – والذي يقول: لقد عطَّلوا ليَّ العمل بالدستور؛ والذي تُؤسس عليه طعون القضايا الدستورية، وكذلك تُؤسّس عليه الأحكام التي أُصدرها فيها، ثُمّ يَطلبون منِّي الاستمرار وطبيعياً في عملي كمحكمةٍ دستورية؛ واللهِ دي غلوتية لكن – ونحن من جانبنا نقول للسانِ حال محكمتنا الدستورية المذكورة؛ نقول: ألا حنانيك وعلى رَسْلِك (رَوِّق المنقة)؛ فليس الأمر بكل هذا التّعقيد، بل هو أبسط من ذلك بكثيرٍ – ونذكر هُنا جَيِّداً بأنّ هذا الأمر كان قد لفت انتباهنا بمُجَرّد ذكره في البيان الأول؛ بواسطة السيد (ابن عوف) الرئيس السابق للمجلس العسكري الانتقالي، ولم نلحظ أنّه قد لفت انتباه أحدٍ من السّادة الصحفيين والمُعلِّقين السياسيين؛ من خلال مُداخلاتهم في القنوات الفضائية المحلية والعالمية، بخلاف السيد/ عثمان ميرغني؛ رئيس تحرير صحيفة (التيار)، فقد كان هو الوحيد منهم؛ الذي تطرّق لهذا الأمر – وبالتالي فنحن نخصُّه بهذا المقال؛ ضمن من يخصهم. * في البدء ولسَبْرِ أغوارِ ذلك؛ لا بُدّ من الوقوف على أرضيةٍ صلبةٍ ومُتّفقٍ عليها بين الجميع، وذلك من خلال سَرد الوقائع الحَقيقيّة لهذه المَسألة شديدة الحَسَاسيّة، حتى نصل إلى نتائج يتّفق عليها الجميع أيضاً – فنقول: إنّ المحكمة الدستورية المُوقّرة قد تم استحداثها كمحكمةٍ مُستقلةٍ وقائمةٍ بذاتها – بعد أن كانت إحدى دوائر المحكمة العليا المُوقّرة – وقد تمّ إنشاؤها بمُوجب قانون المحكمة الدستورية لسنة 1998م؛ والذي حَلّ محله قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م – وما يجدر ذكره أنّ هنالك بعض تَعديلاتٍ قَديمة؛ كانت قد طالت قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م، وَكَانَ ذلك فقط لُزُوم الانفصال المُحزن لجُنوبنا الحبيب؛ كسُوداننا – وصحيحٌ أنّ المَحكمة الدستورية قد تَمّ النص عليها في دستور السُّودان الانتقالي لسنة 2005م المُعَطّل؛ وضمن أجهزة القضاء القومي السُّوداني، وبالتّحديد في الفصل الأول من الباب الخامس من الدّستور المَذكور، ولكن صَدَرَ بعد ذلك قانون المَحكمة الدستورية لسنة 2005م آنف الذكر؛ والذي لم يَطَله إلغاءٌ أو تَعطيلٌ ولا حتى تَعدِيلٌ بعد قيام الثورة (ثورة ديسمبر – أبريل الشعبية المجيدة)، فهو قانون ساري المفعول؛ يحكم كل ما يتعلّق بالمحكمة الدستورية، من حيث تَشكيلها وواجباتها واختصاصاتها وسُلطاتها؛ وكذلك من حيث بعضٍ من إجراءاتها، إذن فمن حيث اختصاصات وسُلطات مَحكمتنا الدّستورية المُوقّرة؛ لا غِبار عليها ولا خِلاف – ولكن الأمر يتعلّق بالكيفية التي تُمَكِّن المَحكمة الدستورية وآنياً؛ من الاستمرار في عَملها طبيعيّاً، ووفق ما جاء بالبند "8" من البيان الأول للمجلس العسكري الانتقالي؛ والذي قَضَى بالآتي:- 1. يستمر العمل طبيعيّاً بالسُّلطة القضائية ومُكوِّناتها، وكذلك المحكمة الدستورية والنيابة العامّة. * وذلك على الرغم من تعطيل العمل بالدستور، ووفق ما جاء بالبند "2" من ذات البيان الأول للمجلس العسكري الانتقالي؛ والذي قضى بالآتي: 2. تعطيل العمل بدستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005م. – فنقول: إنّ كيان الدولة (أي وجودها) ؛ إنّما ينهض على عِمادٍ من الأجهزة والمُؤسّسات فيها، لذلك فإنّ إسقاط أنظمة الحكم في الدول – سواء عبر انقلاباتٍ عسكريةٍ أو ثوراتٍ شعبيةٍ – لا يعني إسقاط الدول نفسها، ومِن ثَمّ ولَمّا كانت أجهزة القضاء في الدول؛ هي من الأعمدة الرئيسة في كياناتها، فهي تظل باقيةً وللقيام بدورها الوطني في الحِفَاظِ على كيانات دولها – وبالتالي يثبت جَلياً أنّ مَحكمتنا الدستورية المُوقّرة؛ إنّما يقع عليها واجبٌ وطنيٌّ في الاضطلاع بدورها ودُونما حاجةٍ للنص على ذلك، فالوطنية كامنة في دواخلنا وما أن يظهر شَئٌ يُمكن أن يمس بالدولة؛ لتجدنها طاغيةً على سُلُوكنا. وبالعودة لموضوعنا؛ نقول: إنّ المحكمة الدستورية وكما أوضح لسان حالها؛ بأنّ الدستور هو عصب عملها الرئيس، فهو المحور لكلٍّ من الطعون الدستورية؛ والأحكام التي تصدر في تلك الطعون – ولكن ذلك العَصب الرئيس؛ يُوجد ما يليه سُمُواً، وقد يكون أسمى ولكنه غير مكتوبٍ في نُصُوصٍ دستوريةٍ؛ كالمبادئ الدستورية، وكذلك ما تتضمّنه المَواثيق والمُعاهدات الإقليميّة والدوليّة والأممية؛ والتي يكون السودان طرفاً فيها – وذلكم العصب آنف الذكر والذي يلي الدستور كعصبٍ رئيس، هو الذي يقوم مع غيره مقام الدستور؛ ويَحل مَحلّه كَمحورٍ في عَمل المَحكمة الدّستورية المُوقّرة الآني – فالدستور يكون محور المحكمة الدستورية؛ في الوضع الطَبيعي للدّولة، أما وقد شاب الدولة وضع ثوري استثنائي، فقد وَجَبَ علينا البَحث عَمّا يحل محل الدستور في ذلكم الوضع الاستثنائي للدولة (الثوري) – وبذا سنلمس أنّ سُلطات أعمال السِّيادة في الدولة؛ قد انتقلت من رئيس الجمهورية إلى المجلس العسكري الانتقالي، وأنّ الدستور قد حل محلّه ومع المبادئ الدّستورية والمَواثيق والمُعاهدات آنفة الذكر، ما يصدر من ذلك المجلس من بياناتٍ (كالبيان الأوّل) ومَا يُسمِّيه مَراسيم دستورية – وبعبارةٍ أُخرى نقول: إنّ النصوص التي عطَّلت العَمل بالدستور، هي نفسها مع ما صَحِبَها؛ ومع المبادئ الدّستورية والمَواثيق والمُعَاهَدَات الإقليميّة والدوليّة والأمميّة ذات الصلة، هي مُجتمعةٌ ما يحل مَحل الدستور، فمن امتلك تَعطيل العَمل بالدستور بمُوجب شرعية وقُوة الثورة (المجلس العسكري الانتقالي)؛ هو نفسه مَن يَضع البديل المُؤقّت له – وبالتالي ولما كَانت أجهزة الدولة ومُؤسّساتها كما أسلفنا؛ لا تسقط بسُقوط نظام الحكم، حيث تظل باقيةً للاضطلاع بدورها الوطني في الحفاظ على كيان الدولة؛ ومنعها من الانزلاق إلى أُتون الفوضى – وكلّما كانت أجهزة الدولة قويةً كلّما كانت قُدرتها أكبر – والله أكبر والمجد لله – وحيث أنّ دولتنا المعنية هنا ليست أية دولة، فهي السُّودان؛ سُودان الخير والكرم والجُود، سُودان العِزّة والشّهامة والصُّمود – سُودان الهيبة والجبرا البخلي جراح أولادو تبرا – فقد وَجَبَ علينا أن نَعمل ونُعطي من أجل سُوداننا؛ عطاءً نبرُّ به وطننا ووطنيتنا في آنٍ واحدٍ. * والجدير بالذكر هنا؛ أنّ السودان مُلزَمٌ بكلٍّ من العهد الدولي لحُقُوق الإنسان المدنية والسِّياسيَّة للعام 1966م – الصادر من الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة، والميثاق الأفريقي لحُقُوق الإنسان والشعوب للعام 1981م – الصادر من مجلس الرؤساء الأفارقة، والميثاق العربي لحُقُوق الإنسان للعام 1997م – الصادر من مجلس جامعة الدول العربية – وبالتالي يثبت أنّ البيان الأول قد جاء مُراعياً للالتزامات والمُتطلبات الإقليمية والدولية والأممية، فعندما يكون السودان مُلزَماً بتوفير سُبُل التظلم لأيِّ شخصٍ اُنتُهِكت حُقُوقه أو حُرياته؛ وأن تكون من ضمنها سُبلاً قضائيةً، وعندما يكون مُلزَماً بإنفاذ الأحكام الصادرة لصالح المُتظلِّمين، وذلك بمُوجب ما نَصّت عليه أحكام المادة "2" البند "3" بفقراته (أ. ب. ج) من العهد الدولي لحُقُوق الإنسان المدنية والسِّياسيَّة آنف الذكر، فإنّ السُّودان يكون قد راعى كل ذلك؛ من خلال ما أورده المجلس العسكري الانتقالي في بيانه الأول، حين أقرّ لأجهزته العدلية من نيابةٍ وقضاءٍ بشقّيه العادي والدستوري؛ باستمرارية العَمل طبيعياً فيها – وينطبق ذلك أيضاً على كل من التزامات السودان الإقليميّة والعربيّة، حيث إنّه يكون قد أوفى كذلك بالتزاماته المَنصوص عليها في كلٍّ من الميثاق الأفريقي لحُقُوق الإنسان والشعوب للعام 1981م، الصادر من مجلس الرؤساء الأفارقة، والمِيثاق العَربي لحُقُوق الإنسان للعام 1997م، الصادر من مجلس جامعة الدول العربية. * مع أمنياتنا لسُوداننا الحبيب الوصول الى الطريق الصحيح؛ لينطلق إلى ما يستحقه من مكانةٍ رفيعةٍ. والله تعالى المُوفق لما فيه خير البلاد والعباد،،،