حملت (السوداني) أوراقها وجلست مع بعض الأسر السودانية العائدة من السعودية وخرجت بالكثير من القصص المؤلمة التي أكدت معاناتهم الشديدة بعد العودة و عدم تأقلم الغالبية منهم مع الواقع الحالي..لنتابع ما جاء علي لسانهم. اتجهت صوب منطقة الصالحة بأمدرمان حيث التقيت بأسرة صالح البدوي و لم أتعب كثيرًا في البحث عنها وذلك بمجرد وصولي للمكان المعني وجدت عدداً من سكان المنطقة وهم يصفون لي بتأثر شديد مكان الأسرة التي أقصدها قائلين : (ناس فلان الجو من السعودية يااااا حليلهم ربنا يعينهم، هناااااك محل شجرة النيمة الكبيرة دييييك قاعدين) تعجبت من حديثهم ثم اتجهت صوب المكان المعني فتفاجأت عندما وجدت عدد خمسة أطفال تتفاوت أعمارهم ما بين الحادية عشرة والعامين وهم يجلسون داخل حوش جدرانه قصيرة ومتآكلة من الطين يتوسدون تحت ظل شجرة النيمة علي سجادة كبيرة يبدو عليها غالية الثمن فهي كانت من ضمن المقتنيات التي جاءوا بها من السعودية و ما أن توقفت أمام الأطفال حتي ظهرت من داخل غرفة متهالكة بالمنزل امرأة بدينة يبدو عليها التعب والإرهاق الشديد بالرغم من الترف الذي يبدو علي ملامحها و بعض الحلي الذهبية تزين يديها فردت تحيتي لها ودعتني للجلوس وكانت على علم بوصولي ثم بدت سرد حكايتها بعد كوب ماء قدم لي. ذكريات شيخ العرب حكت (ك،ر) قصتها ل(السوداني) بعد أن أطلقت تنهيدة طويلة: (قضينا خمسة عشر عامًا في السعودية وقبلها كان زوجي مغتربًا فيها عشنا فيها أجمل سنوات كانت مليئة بالترف والرفاهية وكان يطلق على زوجي شيخ العرب نسبة لكرمه الشديد مع الجميع، لكن للأسف لم نفكر بأن يكون لنا منزل أو رصيد مالي يكفينا شر تقلبات الزمان في الوقت الذي تدهور فيه وضع زوجي المادي ولم يعد كما كان في السابق وذلك بعد أن أصدرت المملكة قرارها بفرض الضرائب على جميع أفراد الأسرة ولم نكن من المخالفين لكن كان لا بد من المغادرة نسبة للضرائب التي فرضت على كل فرد في الأسرة، بالفعل حزمنا حقائب العودة و جئنا إلى السودان حيث شهدنا مرمطة ليس بعدها مرمطة في ميناء سواكن وتعبت نفسيات أطفالي الصغار الذين تفاجأوا بواقع غير الذي كانوا يعيشون فيه .. مرت الأيام ووصلنا لمنزل شقيقتنا الذي لم نستضاف فيه غير أيام قبل مجيئنا هنا إلي منطقة (صالحة) في هذه الغرفة التي تبرع بأن نسكن فيها أحد الأشخاص الذين كنا نستضيفهم في حرم منزلنا بالسعودية، مضيفة (بدأت معاناتي من اليوم الأول لوصولنا والتي تمثلت في المأكل والمشرب حيث لم يعتد أبنائي علي غير المياه المعدنية إلى جانب الأكل الذي اقتصدنا فيه كثيرًا مع الإبقاء على الأرز فهو من الأطباق الرئيسية بالنسبة لنا كما أنني في شهري الثامن علي وشك الولادة اضطررت لبيع خاتمي الذهبي حتي أحجز في أحد المستشفيات للولادة إلى جانب جهاز الطفل من ملابس وغيرها و الآن هناك ثلاثة من أطفالي من المفترض أن يواصلوا دراستهم إلا أن الرسوم غالية لنضطر لتأجيلها هذا العام كما أن أبنائي يعانون من مياه الأمطار و الطين و الباعوض الذي شوه أجسادهم أما بالنسبة لزوجي وضعه المادي صعب جدًا ويرتب للعودة نهائيًا. في انتظار الفرج وذات القصة وإن اختلفت بعض الأشياء فيها عاشتها أسرة (م،ح) التي يقطن أفرادها بمنطقة الصحافة جنوبالخرطوم وهي مكونة من أم وسبعة أبناء قضوا ما يقارب العشرين عامًا بالسعودية ونسبة لمرض والدهم الشديد وتقاعده عن العمل أصبح الابن الأكبر هو العائل الوحيد للأسرة إلى جانب عمل والدته التي تقوم بنقش الحناء بأحد مراكز التجميل مقابل أجر تسد به احتياجات الأسرة من علاج وإيجار، تحدثت (م،ح) ل(السوداني) قائلة: (بعد البذخ الذي كنا نعيش فيه في السعودية اضطررنا للعودة والآن بعد وصولنا قمنا بإيجار شقة صغيرة و طلب منا مقدم شهرين سددها زوجي وطلب منا أن نقتصد في كل شيء حتي يعتاد الصغار علي الحياة الجديدة وهم عمرهم لم يزوروا السودان نهائيًا و لكن شاءت الظروف بأن يأتوا ليشهدوا واقعًا مريرًا حتى أنني اضطررت لبيع ثيابي باهظة الثمن فيما رهنت ذهبي لأحد الصياغ حتى يواصل أبنائي تعليمهم الجامعي إلى جانب نفور بعض الأهل المقربين منا بالرغم من أننا كنا نقوم بكفالة أغلبهم عندما كان زوجي في بداية سنوات اغترابه، خاتمة (نحمد الله علي ما أراد وننتظر الفرج القريب من رب العالمين). صحة وتعليم جولة طويلة كانت وقصص كثيرة لا يسع المجال لسردها، استمعنا لها من أُسر عائدة للتو من المملكة العربية السعودية ليستقر بها المقام في أماكن متفرقة من العاصمة، أما التي غادرت من ميناء بورتسودان ومطار الخرطوم مباشرة إلى قرى السودان المختلفة فتلك نسأل الله أن يتلطَّف بها. القاسم المشترك لمعظم الأسر التي التقيناها يتلخص في مشكلات الرسوم الدراسية و السكن إلى جانب شكوى البعض من الأثر النفسي الذي يعانيه أطفالهم بعدم تقبلهم للواقع الجديد الذي يرونه أقل بكثير من حياة الترف التي كانوا يعيشونها في السعودية. أثر نفسي.. حول الموضوع ولمعرفة الأثر النفسي لبعض الأسر العائدة تحدثت ل(السوداني) د.فريال صدقي قائلة: (بالطبع كل شخص يُمنِّي نفسه أن يعيش حياة مترفة و منعمة مما يجعل البعض ممن لم تتحقق أحلامهم تلك بأن يعيشوها من نسج أوهامهم حتى يصدقوها ما يؤثر ذلك علي نفسياتهم حال معايشتهم للواقع، موضحة (بالنسبة للأسر العائدة من السعودية و التي كانت تعيش في ترف ونعيم تصطدم نفسياتهم بواقع أليم و خاصة أن عودتهم جاءت في ظروف استثنائية حرجة جدًا ما كان له الأثر البالغ خاصة لدى الأطفال الذين تشكلت وتكونت دواخلهم علي حياة تأقلموا عليها فصعب علي بعضهم تقبل الواقع الآني لذلك لابد من متابعة نفسياتهم حتى يعودوا كما كانوا وذلك بأخذ جرعات توعوية والتعريف بالواقع الجديد دون رعب كما يجب معاملة كبارهم (الأم والأب) بلطف شديد بعيدًا عن الشفقة لأن الغالبية منهم يكونون في حالة من الزهج والقرف ما يجعل هناك اضطرابات نفسية تؤثر في تعاملهم مع الآخرين إلى جانب حالة التوتر الشديد والخوف من المجهول الذي قد يفضي بهم إلي الهاوية.) صندوق دعم العودة.. أخيراً كان من الضرورة بمكان أن نضع عدداً من الأسئلة على طاولة نائب رئيس صندوق (دعم العودة) بجهاز المغتربين الصادق محمد حول دور الصندوق وكيفية تقديم المساعدات للأسر العائدة ما يختص بالتعليم و توفير فرص العمل وغيرها الذي تحدث قائلاً: (تعتبر قضية الأسر العائدة من السعودية من أهم القضايا التي تهم جهاز المغتربين ومجلس الوزراء بتقديم العون والمساعدة لهم، لذلك قمنا بوضع ترتيبات تخصهم من بينها اتفاقية مع القطاع الخاص لتقديم مشاريع من خلال بنوك مختلفة لتمويل ودعم المشاريع عبر نافذة جهاز المغتربين وذلك بأن يختار الشخص المشروع الذي يناسبه وسيتم التنفيذ بعد العيد مباشرة، أما بالنسبة لمجانية التعليم بالفعل أن التعليم الحكومي ليس مجاناً بالكامل و لكن هناك بعض الرسوم الدراسية التي يدفعها أولياء أمور الطلاب هي التي استثنينا منها أسر العائدين و لن يسألوا عنها أي يتم قبولهم دون رسوم كما قمنا بإرسال عدد من الخطابات ل(التعليم الأهلي) بأن يتم قبولهم دون رسوم وكل من يعاني من مشكلة في مسألة رسوم المدارس أبوابنا بصندوق (دعم العودة) بجهاز المغتربين مفتوحة لهم بمخاطبتنا للجهات الرسمية و شبه الرسمية لتقديم المساعدة لهم وهذا ليس بالأمر الجديد علينا إذ قمنا قبل سنوات بالوقوف مع الأسر العائدة من اليمن حيث تم منح 860 أسرة مساعدات من ديوان الزكاة مباشرة بل ذهبنا لخطوات لأكثر من ذلك وهي استخراج بطاقات التأمين الصحي لهذه الأسر، مشيرًا إلي أن معظم مشكلات الأسر العائدة تتمثل في بعض عراقيل التعليم لأن وزارة التربية والتعليم تطلب مواصفات معينة وهؤلاء يمكن مخاطبتهم بقبول أولئك الطلاب إلي حين إكمال إجراءاتهم لأن هدفنا الأول والأخير هو تخفيف حجم المعاناة بقدر المستطاع.)