فقدت وظيفتي مرتين في عهد الإنقاذ.. عليه يكون موقفي الطبيعي أنني مع المفصولين تعسفيا.. طوال تلك السنوات.. ومع حقهم في تعويضهم عن كل الأضرار المادية والمعنوية والنفسية التي لحقت بهم جراء تلك السياسات الخرقاء التي انتهجها النظام.. لا لشيء إلا لتصفية خصومه السياسيين اولا.. ثم التمكين لمنسوبيه في مختلف مفاصل الدولة.. وقد كانت النتيجة الطبيعية لتلك السياسات.. أن خسرت البلاد خدمات الآلاف من أبنائها المؤهلين فى مختلف المجالات.. ولن ينكر إلا مكابر أن بلادنا تدفع حتى اليوم ثمن تلك السياسات.. ولكن كل هذا لا يعني أنني لن اختلف مع لجنة إعادة المفصولين تعسفيا.. لا في أهدافها بالطبع.. بل في منهجها وسياستها التي تنتهجها لإنصاف اولئك المظلومين..! إننى كنت ولا زلت افترض.. أن اللجنة المعنية ما كان لها أن تكون لجنة مبادرة مستقلة لذاتها.. بل كان ينبغي أن تكون جزءا من منظومة متكاملة.. مهمتها الأساسية إصلاح الخدمة المدنية في البلاد.. على أن يكون إعادة المفصولين جزءا لا يتجزأ من سياسات الإصلاح.. وكنت ولا زلت افترض.. أن يبدأ العمل لا بمراجعة أوضاع المفصولين.. بل بمراجعة أوضاع مؤسسات الخدمة العامة.. سواء تلك التي فصل منها هؤلاء المفصولون.. أم غيرها من المؤسسات.. وكنت ولا زلت أفترض.. أن إنصاف ضحايا الإنقاذ في الخدمة العامة.. على سبيل المثال.. لا يجب أن تقع مسئوليته على المؤسسات التي فصلوا منها.. بل يجب أن تكون مسئولية الدولة.. وفي اعلى مستوياتها بالدرجة الأولى.. ولتقريب الصورة.. فلئن كانت الدولة مشغولة الآن بتعويض ضحايا سياسات الإنقاذ الخارجية.. المدمرة كول والسفارتين نموذجا.. فقد كان ينبغي ولا يزال.. بل ومن باب اولى..أن تتحمل الدولة مسئولية تعويض ضحايا سياسات الإنقاذ الداخلية من المواطنين السودانيين.. مع ملاحظة أن من تسارع الدولة لتعويضهم الآن أجانب.. بينما ضحايا السياسات الداخلية مواطنون.. وبينما يعتبر المستهدفون بالتعويض جراء السياسات الخارجية.. هم ضحايا من الدرجة الثانية.. أسر الضحايا.. فإن المعنيين بالتعويض جراء السياسات الداخلية.. هم ضحايا من الدرجة الأولى.. المفصولون أنفسهم.. ! ولماذا مراجعة أوضاع المؤسسات قبل مراجعة اوضاع الأفراد..؟ لعدة اسباب.. أهمها أن حال هذه البلاد لن ينصلح إلا إذا تقدمت المصلحة العامة على المصالح الخاصة.. وإلا إذا لم نعلي من قيمة السياسات العامة والرؤى الكلية.. طويلة الأمد.. على الأهداف المحدودة.. قصيرة المدى.. ضعيفة التأثير.. ولعل سؤالا واحدا سيكشف خلل المنهج الذى تعمل به لجنة إعادة المفصولين.. هل تكرمت اللجنة أو أية جهة ذات اختصاص بطرح سؤال واحد والبحث في إجابة له من الواقع.. ؟ السؤال هو.. مدى جاهزية الاقتصاد السوداني على استيعاب آلاف الوظائف الناجمة عن قرارات لجنة إعادة المفصولين..؟.. وحين نطالب بمراجعة المؤسسات قبل الأفراد.. فإننا نسعى للحصول على إجابات لأسئلة من ذات الشاكلة.. هل المؤسسات التي تقرر اللجنة إعادة مفصوليها.. أيا كان عددهم.. مؤهلة لهذا الدور ماليا..؟ وهل لديها القدرة على استيعاب موظفين وعمال بخبرات تتجاوز ربع القرن في الحد الأدنى.. ؟ وهل تساءلت اللجنة عن الأعباء المالية لهذه الوظائف بهذه الخبرات الطويلة..؟.